وخولف بين الحالتين : فجعل للمتقين غرف موصوفة بأنها فوقها غرف، وجعلت للمشركين ظُلل من النار، وعطف عليها أنّ مِن تحتهم ظللاً للإِشارة إلى أن المتقين متنعمون بالتنقل في تلك الغرف، وإلى أن المشركين محبوسون في مكانهم، وأن الظلل من النار من فوقهم ومن تحتهم لتتظاهر الظلل بتوجيه لفح النار إليه من جميع جهاتهم.
والمبنيّة : المسموكة الجدران بحَجر وجِصّ، أو حَجر وتراب، أو بطوب مُشمس ثم توضع عليها السُقُف، وهذا نعت لغرف التي فوقها غرف.
ويعلم منه أن الغرف المعتلَى عليها مبنية بدلالة الفحوى.
وقد تردد المفسرون في وجه وصف الغرف مع أن الغرفة لا تكون إلا من بناء، ولم يذهبوا إلى أنه وصف كاشف ولهم العذر في ذلك لقلة جدواه فقيل ذكر المبنية للدلالة على أنها غرف حقيقة لا أشياء مشابهة الغرف فرقاً بينهما وبين الظلل التي جعلت للذين خسروا يوم القيامة فإن ظللهم كانت من نار فلا يظن السامع أن غرف المتقين مجاز عن سحابات من الظلّ أو نحو ذلك لعدم الداعي إلى المجاز هنا بخلافه هنالك لأنه اقتضاه مقام التهكم.
وقال في "الكشاف" :﴿ مَّبْنِيَةٌ ﴾ مثل المنازل اللاصقة للأرض، أي فذكر الوصف تمهيد لقوله :﴿ تَجْرِي مِن تحتها الأنهَارُ ﴾ لأن المعروف أن الأنهار لا تجري إلا تحت المنازل السفلية أي لم يفت الغرف شيء من محاسن المنازل السفلية.
وقيل : أريد أنها مهيّأة لهم من الآن.
فهي موجودة لأن اسم المفعول كاسم الفاعل في اقتضائه الاتصاف بالوصف في زمن الحال فيكون إيماء إلى أن الجنة مخلوقة من الآن.
ويجوز عندي أن يكون الوصف احترازاً عن نوع من الغرف تكون نحتاً في الحَجر في الجبال مثل غرف ثمود، ومثل ما يسمّيه أهل الجنوب التونسي غرفاً، وهي بيوت منقورة في جبال ( مدنين ) و ( مطماطة ) و ( تطاوين ) وانظر هل تسمى تلك البيوت غرفاً في العربية فإن كتب اللغة لم تصف مسمّى الغرفة وصفاً شافياً.


الصفحة التالية
Icon