ولما كان ما أمر به مفهماً لأن يكون مع ترغيب ومع ترهيب، وكان ربما ظن أن الرئيس لا يرهب الملك لأمور ترجى منه أو تخشى، وكان تكرير الأمر بإبلاغ المأمورين أوقع في قلوبهم وأشد إقبالاً بنفوسهم قال تعالى :﴿قل﴾ أي لأمتك، وأكد - لما في الأوهام أن الرئيس لا يخاف - قوله ﴿إني أخاف﴾ أي مع تأمينه لي بغفران ما تقدم وما تأخر إخلاصاً في إجلاله وإعظامه وفعلاً لما على العبد لمولاه الذي له جميع الكبرياء والعظمة، ولما كان وصف الإحسان ربما جراً على العصيان، يبن أنه لا يكون ذلك إلا لعدم العرفان فقال :﴿إن عصيت ربي﴾ أي المحسن إليّ المربي لي بكل جميل فتركت الإخلاص له ﴿عذاب يوم عظيم﴾ وإذا كان اليوم عظيماً، فكيف يكون عذابه.
ولما بين ما أمر به، وأعلم أنه يخاف من مخالفة الأمر له بذلك فأفهم أنه ممتثل لما أمر به، أمره سبحانه بأن يصرح بذلك لأن التصريح من المزية ما لا يخفى فقال :﴿قل الله﴾ أي المحيط بصفات الكمال وحده ﴿أعبد﴾ تخصيصاً له بذلك، لا أنحو أصلاً بالعبادة نحو غيره أبداً ﴿مخلصاً له﴾ وحده ﴿ديني﴾ أي امتثالاً لما أمرت به فلا أشينه بشائبة أصلاً لا طلباً لجنّة ولا خوفاً من نار فإنه قد غفر لي ما تقدم وما تأخر، فصارت عبادتي لآجل وجهه وكونه مستحقاً للعبادة خاصة شوقاً إليه وحباً له وحياء منه وأما الرغبة فيما عنده سبحانه والخوف من سطواته التي جماعها قطع الإحسان الذي هو عند الأغبياء أدنى ما يخاف فإنما خوفي لأجل إعطاء المقام حقه من ذل العبودية وعز الربوبية.
ولما علم من هذا غاية الامتثال بغاية الرغبة والرهبة وهم يعلمون أنه ـ ﷺ ـ أقواهم قلباً وأصفاهم لباً، وأجرأهم نفساً وأصدقهم وأشجعهم عشيرة وحزباً، كان خوف غيره من باب الأولى، فسبب عنهد تهديدهم أعظم تهديد بقوله :﴿فاعبدوا﴾ أي أنتم أيها الداعون له في وقت الضراء المعرضون عنه في وقت الرخاء ﴿ما شئتم﴾ أي من جماد أو غيره.


الصفحة التالية
Icon