ولما ذكر ما أعد لهم من الآخرة، وكانوا في مدة كفرهم كالحيوانات العجم لا ينظرون إلا الجزئيات الحاضرة، خوفهم بما يعملونه في الدنيا، فقال على طريق الاستئناف في جواب من يقول : فهل يعذبون في الدنيا :﴿كذب الذين﴾ وأشار إلى قرب زمان المعذبين من زمانهم بإدخال الجار فقال :﴿من قبلهم﴾ أي مثل سبأ وقوم تبع وأنظارهم :﴿فأتاهم العذاب﴾ وكان أمرهم علينا يسيراً، وأشار إلى أنه لم يغنهم حذرهم بقوله :﴿من حيث﴾ أي من جهة ﴿لا يشعرون﴾ أنه يأتي منها عذاب، جعل إتيانه من مأمنهم ليكون ذلك أوجع للمعذب، وأدل على القدرة بأنه سواء عنده تعالى الإتيان بالعذاب من جهة يتوقع منها ومن جهة لا يتوقع أن يأتي منها شر ما، فضلاً عما أخذوا به، بل لا يتوقع إلا الخير.
لما بين سفههم وشدة حمقهم باستعجالهم بالعذاب استهزاء، سبب عنه تبكيت من لم يتعظ بحالهم فقال :﴿فأذاقهم الله﴾ أي الذي لا راد لأمره ﴿الخزي﴾ أي الذل الناشئ عن الفضيحة والعذاب الكبير بما رادوه من إخزاء الرسل بتكذبيهم ﴿في الحياة الدنيا﴾ أي العاجلة الدنية.
ولما كان انتظار الفرج مما يسلي، قال معلماً أن عذابهم دائم على سبيل الترقي إلى ما هو أشد، وأكده إنكارهم إياه :﴿ولعذاب الآخرة﴾ أي الذي انتقلوا إليه بالموت ويصيرون إليه البعث :﴿أكبر﴾ من العذاب الذي أهلكهم في الدنيا، وأشدهم إخزاء، فالآية من الاحتباك : ذكر الخزي أولاً دليلاً على إرادته ثانياً، والأكبر ثانياً دليلاً على الكبير أولاً، وسره تغليظ الأمر عليهم بالجمع بين الخزي والعذاب بما فعلوا برسله عليهم الصلاة والسلام بخلاف ما يأتي في فصلت.
فإن سيافه للطعن في الوحدانية، وهي لكثرة أدلتها وبعدها عن الشكوك وعظيم المتصف بها وعدم تأثيره بشيء يكفي في نكال الكافر به مطلق العذاب.


الصفحة التالية
Icon