ولما ذكر سبحانه الذين ركب فيهم الشهوات، وما وصلوا إليه من المقامات، أتبعهم أهل الكرامات الذين لا شاغل لهم عن العبادات، فقال صارفاً الخطاب لعلو الخبر إلى أعلى الخلق أنه لا يقوم بحق هذه الرؤية غيره :﴿وترى﴾ معبراً بأخص من الإبصار الأخص من النظر كما بين في البقرة في قوله تعالى ﴿وإن القوة لله جميعاً﴾ [ البقرة : ١٦٥ ] ﴿الملائكة﴾ القائمين بجميع ما عليهم من الحقوق ﴿حافين﴾ أي محدقين ومستديرين وطائفين في جموع لا يحصيها إلا الله.
من الخف وهو الجمع، والحفة وهو جماعة الناس، والأعداد الكثيرة، وهو جمع حاف، وهو الواحد من الجماعة المحدقة.
ولما كان عظيم الشيء من عظم صاحبه، وكان لا يحيط بعظمة العرش حق الإحاطة إلا الله تعالى، أشار إلى ذلك بإدخال الجاز فقال :﴿من حول العرش﴾ أي الموضع الذي يدار فيه به ويحاط به منه، من الحول وهو الإحاطة والانعطاف والإدارة.
محدقين ببعض أحفته أي جوانبه التي يمكن الحفوف بها بالقرب منها يسمع لحفوفهم صوت بالتسبيح والتحميد والتقديس والاهتزاز خوفاً من ربهم، فإدخال ﴿من﴾ يفهم أنهم مع كثرتهم إلى حد لا يحصيه إلا الله، لا يملؤون ما حوله، حال كونهم ﴿يسبحون بحمد﴾ وصرف القول إلى وصف الإحسان مدحاً لهم بالتشمير لشكر المنعم وتدريباً لغيرهم فقال :﴿ربهم﴾ أي يبالغون في التنزيه عن النقص بأن يتوهم متوهم أنه محتاج إلى عرش أو غيره، وأن يحويه مكان متلبسين بإثبات الكمال للمحسن إليهم بإلزامهم بالعبادة من غير شاغل يشغلهم، ولا منازع من شهوة أو حظ يغفلهم، تلذذاً بذكره وتشرفاً بتقديسه، ولأن حقه إظهار تعظميه على الدوام كما أنه متصل الإنعام.
ولما تقدم ذكر الحكم بين أهل الشهوات بما برز عليهم من الشهادات، ذكر هنا الحكم بينهم وبين الملائكة الذين فاضوا في أصل خلقهم بقولهم ﴿أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء﴾ الآية فقال :﴿وقضى بينهم﴾ أي بين أهل الشهوات وأهل العصمة والثبات.


الصفحة التالية
Icon