﴿وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء﴾ [ الأعراف : ١٥٦ ] قلنا كل وجود فقد نال من رحمة الله تعالى نصيباً وذلك لأن الموجود إما واجب وإما ممكن، أما الواجب فليس إلا الله سبحانه وتعالى، وأما الممكن فوجوده من الله تعالى وبإيجاده، وذلك رحمة، فثبت أنه لا موجود غير الله إلا وقد وصل إليه نصيب ونصاب من رحمة الله، فلهذا قال :﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْء رَّحْمَةً وَعِلْماً﴾ وفي الآية دقيقة أخرى، وهي أن الملائكة قدموا ذكر الرحمة على ذكر العلم فقالوا ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْء رَّحْمَةً وَعِلْماً﴾ وذلك لأن مطلوبهم إيصال الرحمة وأن يتجاوز عما عليه منهم من أنواع الذنوب، فالمطلوب بالذات هو الرحمة، والمطلوب بالعرض أن يتجاوز عما علمه منهم، والمطلوب بالذات مقدم على المطلوب بالعرض، ألا ترى أنه لما كان إبقاء الصحة مطلوباً بالذات وإزالة المرض مطلوباً بالعرض لا جرم لما ذكروا حد الطب قدموا فيه حفظ الصحة على إزالة المرض، فقالوا الطب علم يتعرف منه أحوال بدن الإنسان من جهة ما يصلح ويزول عن الصحة لتحفظ الصحة حاصلة وتسترد زائلة، فكذا ههنا المطلوب بالذات هو الرحمة، وأما التجاوز عما علمه منهم من أنواع الذنوب فهو مطلوب بالعرض، لأجل أن حصول الرحمة على سبيل الكمال لا يحصل إلا بالتجاوز عن الذنوب، فلهذا السبب وقع ذكر الرحمة سابقاً على ذكر العلم.
المسألة الرابعة :
دلت هذه الآية على أن المقصود بالقصة الأولى في الخلق والتكوين إنما هو الرحمة والفضل والجود والكرم، ودلت الدلائل اليقينية على أن كل ما دخل في الوجود من أنواع الخير والشر والسعادة والشقاوة فبقضاء الله وقدره، والجمع بين هذين الأصلين في غاية الصعوبة، فعند هذا قالت الحكماء : الخير مراد مرضي، والشر مراد مكروه، والخير مقضي به بالذات، والشر مقضي به باللعرض، وفيه غور عظيم.
المسألة الخامسة :