"ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ" شيء ظلماني كالدخان، وقد مرّ أن عرش الرحمن كان على الماء وكان قبله عماء، راجع الآية ٦ من سورة هود المارة، وأحدث اللّه في هذا الماء سخونة، فارتفع زبد ودخان، فأما الزبد فبقي على وجه الماء فأيبسه اللّه وأحدث منه الأرض، وأما الدخان فارتفع وعلا، فخلق منه السموات، قال الراجز في صفة الأرض :
فبطنها محشوة بالغار وقشرها قد شق بالبحار
ومما يدل على هذا قوله تعالى (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) الآية ٧ من سورة الطور الآتية، وقوله صلّى اللّه عليه وسلم :(البحر طباق جهنم) وقد أسهبنا البحث في هذا في الآية ٢٧ من سورة الحجر المارة فراجعها، وفي هذه الآية معجزة من معجزات القرآن أيضا، إذ لم يكن عالم أو فيلسوف في ذلك العهد أخبر حضرة الرسول أن هذا الكون
كان بادىء بدء مملوء بالسديم أي الأثير والهيولى، مع أن هذه القضية لم تعرف إلا بعد نزول القرآن بمئات من السنين.
والدخان أجزاء أرضية لطيفة ترتفع بالهواء مع الجرارة، والبخار أجزاء مائية ترتفع في الهواء مع الأشعة الراجعة من سطوح المياه، فعبر بالدخان عن مادة السماء أي الهيولى والصورة الجسمية أو عن الأجزاء المتصغرة المركبة منها أي الأجزاء التي لا تتجزأ.
ولما كان أول حدوثها مظلمة سميت بالدخان تشبيها لها به من حيث أنها أجزاء متفرقة غير متراصة ولا متواصلة عديمة النور، أشبه شيء بالدخان.
أما الإستواء فقد تقدم توضيحه في الآية ٥٤ من سورة الأعراف والآية ٥ من سورة طه المارتين في ج ١، وهو متى ما عدّي بعلى يكون بمعنى الاستيلاء والاستعلاء كقوله تعالى (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) الآية المذكورة من طله، ومنى ما عدي بإلى كما هنا يكون بمعنى الانتهاء، فاحفظ هذا وتذكره عند كل جملة من هذا القبيل، وراجع بيانه فيما أرشدناك إليه من المواضع.