اعلم أن مناسبة هذه الآية لما قبلها هو دفع ما يتوهم إن فعل ذلك بمقابل إساءة الغير قد يكون ذلا أو خوفا أو عازا من الناس، وإن حصول هذه الوساوس من الشيطان الذي لا يريد إلا الشر للإنسان، كيف وقد حذّرنا اللّه منه بقوله عزّ قوله (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً) الآية ٦٠ من سورة النساء في ج ٣، بأن تجنحوا بكليتكم إلى المساوى والمكاره وتعرضوا عن العفو ومكارم الأخلاق ومحاسن الآداب، فعلى العاقل أن ينتبه لذلك، لأن تلك الأعمال الحسنة ما هي إلا من علو النفس وزكاة القلب وكمال الإيمان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، قال تعالى "وَمِنْ آياتِهِ" الدالة على توحيده وعظيم قدرته وبالغ حكمته "اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ" المسخّرات بأمره لمنافع الخلق وما في الكون كله يخضعون لعظمته ويسجدون كل بحسبه انقيادا لجلاله، فإذا علمتم هذه تفعل هذا وهي دونكم في العقل والفضل، فيا أيها العقلاء "لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ" لأنها ليست بأهل لذلك ولأنها من جملة مخلوقاته الكائنين في قبضته "وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ" لمنافعكم فهو وحده المستحق للسجود "إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ" ٣٧ تخصونه بعبادتكم وتطلبون ثوابها "فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا" عن حصر السجود للّه وعمدوا إلى غيره، فاترك يا أكمل الرسل هؤلاء الذين اختاروا المخلوقين على الخالق "فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ" من الملائكة الكرام يسجدون له كما يسجد المؤمنون أمثالك و"يُسَبِّحُونَ" له "بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ" ٣٨ من عبادته ويملون منها ولا يتكاسلون عنها وهنا موضع السجود على الوجه الأكمل لا عند قوله (تَعْبُدُونَ) كما قاله بعض القراء، بل عند تمام هذه الآية الأخيرة لأن السجود يكون عند تمام المعنى المراد به فتكون السجدة آية واحدة