وعلم أنا بينا أن الكلام من أول السورة ابتدىء من أن الله حكى عنهم أنهم قالوا ﴿قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾ [ فصلت : ٥ ] فأظهروا من أنفسهم الإصرار الشديد على أديانهم القديمة وعدم التأثر بدلائل محمد ﷺ، ثم إنه تعالى أطنب في الجواب عنه وذكر الوجوه الكثيرة وأردفها بالوعد والوعيد، ثم حكى عنهم شبهة أخرى وهي قولهم ﴿لا تَسْمَعُواْ لهذا القرءان والغوا فِيهِ﴾ [ فصلت : ٢٦ ] وأجاب عنها أيضاً بالوجوه الكثيرة، ثم إنه تعالى بعد الإطناب في الجواب عن تلك الشبهات رغب محمداً ﷺ في أن لا يترك الدعوة إلى الله فابتدأ أولاً بأن قال :﴿إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا﴾ فلهم الثواب العظيم ثم ترقى من تلك الدرجة إلى درجة أخرى وهي أن الدعوة إلى الله من أعظم الدرجات، فصار الكلام من أول السورة إلى هذا الموضع واقعاً على أحسن وجوه الترتيب، ثم كأن سائلاً سأل فقال إن الدعوة إلى الله وإن كانت طاعة عظيمة، إلا أن الصبر على سفاهة هؤلاء الكفار شديد لا طاقة لنا به، فعند هذا ذكر الله ما يصلح لأن يكون دافعاً لهذا الإشكال فقال :﴿وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة﴾ والمراد بالحسنة دعوة الرسول ﷺ إلى الدين الحق، والصبر على جهالة الكفار، وترك الانتقام، وترك الالتفات إليهم، والمراد بالسيئة ما أظهروه من الجلافة في قولهم ﴿قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾ وما ذكروه في قولهم ﴿لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرءان والغوا فِيهِ﴾ فكأنه قال يا محمد فعلك حسنة وفعلهم سيئة، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، بمعنى أنك إذا أتيت بهذه الحسنة تكون مستوجباً للتعظيم في الدنيا والثواب في الآخرة، وهم بالضد من ذلك، فلا ينبغي أن يكون إقدامهم على تلك السيئة مانعاً لك من الاشتغال بهذه الحسنة.