الصفة الخامسة : قوله تعالى :﴿والذين إِذَا أَصَابَهُمُ البغي هُمْ يَنتَصِرُونَ﴾ والمعنى أن يقتصروا في الانتصار على ما يجعله الله لهم ولا يتعدونه، وعن النخعي أنه كان إذا قرأها قال كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترىء عليهم السفهاء، فإن قيل هذه الآية مشكلة لوجهين الأول : أنه لما ذكر قبله ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ فكيف يليق أن يذكر معه ما يجري مجرى الضد له وهو قوله ﴿والذين إِذَا أَصَابَهُمُ البغي هُمْ يَنتَصِرُونَ﴾ ؟ الثاني : وهو أن جميع الآيات دالة على أن العفو أحسن قال تعالى :﴿وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى﴾ [ البقرة : ٢٣٧ ] وقال :﴿وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً﴾ [ الفرقان : ٧٢ ] وقال :﴿خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين﴾ [ الأعراف : ١٩٩ ] وقال ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للصابرين﴾ [ النحل : ١٢٦ ] فهذه الآيات تناقض مدلول هذه الآية والجواب : أن العفو على قسمين أحدهما : أن يكون العفو سبباً لتسكين الفتنة وجناية الجاني ورجوعه عن جنايته والثاني : أن يصير العفو سبباً لمزيد جراءة الجاني ولقوة غيظه وغضبه، والآيات في العفو محمولة على القسم الأول، وهذه الآية محمولة على القسم الثاني، وحينئذ يزول التناقض والله أعلم، ألا ترى أن العفو عن المصر يكون كالإغراء له ولغيره، فلو أن رجلاً وجد عبده فجر بجاريته وهو مصر فلو عفا عنه كان مذموماً، وروي أن زينب أقبلت على عائشة فشتمتها فنهاها النبي ﷺ عنها فلم تنته فقال النبي ﷺ :" دونك فانتصري " وأيضاً إنه تعالى لم يرغب في الانتصار بل بيّن أنه مشروع فقط، ثم بيّن بعده أن شرعه مشروط برعاية المماثلة، ثم بيّن أن العفو أولى بقوله ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله﴾ فزال السؤال، والله أعلم. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ٢٧ صـ ١٥١ ـ ١٥٢﴾