ولما كان الرسول ﷺ أوسطهم قال :﴿ويكون الرسول﴾ أي لا غيره بما اقتضاه اختصاصه بكونه وسط الوسط ﴿عليكم﴾ خاصة ﴿شهيداً﴾ بأنكم تابعتموه وصدقتموه فكنتم خير أمة أخرجت للناس، وبأنه قد بلغكم مدة حياته، فلما مات خلف فيكم كتاباً معجزاً متواتراً لا يغسله الماء ولا تحرقه النار، لأنه محفوظ في الصدور متلو بالألسن إلى أن يأتي أمر الله، ولذلك عبر بأداة الاستعلاء فافهم صوغ الكلام هكذا : إنهم حازوا شرفين أنه لا يشهد عليهم إلا الرسول، وأنه لا يحتاج في الشهادة على سائر الأمم إلى غير شهادتهم دفعاً لتوهم أن غيرهم يشهد عليهم كما شهدوا عليهم، ولتوهم أن غيرهم لا يكتفى في الشهادة عليه إلا بشهادة الرسول كما لم يكتف فيهم إلا بذلك.
ولما أعلم بما ﴿سيقول السفهاء﴾ [ البقرة : ١٤٢ ] وعلم جوابهم وبين سر التحويل بين علة التوجيه إلى قبلتين بقوله :﴿وما جعلنا﴾ أي بعظمتنا التي لا يقاويها أحد ﴿القبلة﴾ قال الحرالي : في جملته إنباء بأن القبلة مجعولة أي مصيرة عن حقيقة وراءها ابتلاء بتقليب الأحكام ليكون تعلق القلب بالله الحكيم لا بالعمل المحكم، فالوجهة الظاهرة ليكون ذلك علماً على المتبع عن صدق فيثبت عند تقلب الأحكام بما في قلبه من صدق التعلق بالله والتوجه له أيان ما وجهه، وعلى المجيب عن غرض ظاهر ليس يسنده صدق باطن فيتعلق من الظاهر بما لا يثبت عند تغيره - انتهى.
وبين أنها الأولى بقوله :﴿التي كنت عليها﴾ وبين أن العلة التمييز بين الناس بقوله :﴿إلا لنعلم﴾ أي بما لنا من العظمة بالجنود والرسل وغيرهم حين وجود الأمر بالتحول عنها ﴿من يتبع الرسول﴾ في كل ما يأمر به اتباعاً دالاً على تمكن إيمانه ﴿ممن ينقلب﴾ أي يرتد فيدبر بعد إقباله متنكساً ﴿على عقبيه﴾ علماً متعلقاً بموجود تقوم به الحجة في مجاري عاداتكم، والعقب مؤخر القدم.


الصفحة التالية
Icon