ولما كان الإرسال يقع على أنحاء من الأشكال، ميزه بأن قال :﴿من نبي في الأولين﴾ ثم حكى حالهم الماضية إشارة إلى استمرار حال الخلق على هذا فقال :﴿وما﴾ أي والحال أنه ما ﴿يأتيهم﴾ وأغرق في النفس بقوله :﴿من نبي﴾ أي في أمة بعد أمة بعد أمة وزمان بعد زمان ﴿إلا كانوا﴾ أي خلقاً وطبعاً وجبلة ﴿به يستهزءون﴾ كما استهزأ قومك، وتقديم الظرف للإشارة إلى أن استهزاءهم به لشدة مبالغتهم فيه كأنه مقصور عليه.
ولما كان الاستهزاء برسول الملك استهزاء به، وكانت المماليك إنما تقام بالسياسة بالرغبة والرهبة وإيقاع الهيبة حتى يتم الجلال وتثبت العظمة، فكان لذلك لا يجوز في عقل عاقل أن يقر ملك على الاستهزاء به، سبب عن الاستهزاء بالرسل الهلاك فقال :﴿فأهلكنا﴾ وكان الأصل الإضمار، ولكنه أظهر الضمير بياناً لما كان في الأولين من الضخامة صارفاً أسلوب الخطاب إلى الغيبة إقبالاً على نبيه ـ ﷺ ـ تسلية له وإبلاغاً في وعيدهم فقال :﴿أشد منهم﴾ أي من قريش الذي يستهزئون بك ﴿بطشاً﴾ من جهة العد والعدد والقوة والجلد فما ظنهم بأنفسهم وهم أضعف منهم إن تمادوا في الاستهزاء برسول الله الأعلى.
ولما ذكر إهلاك أولئك ذكر أن حالهم عن الإهلاك كان أضعف حال ليعتبر هؤلاء فقال :﴿ومضى مثل الأولين﴾ أي وقع إهلاكهم الذي كان مثلاً يتمثل به من بعدهم، وذكر أيضاً في القرآن الخبر عنه بما حقه أن يشير مشير المثل بل ذكر أن من عبده الأولون واعتمدوا علهي مثل بيت العنكبوت فكيف بالأولين أنفسهم فكيف بهؤلاء، فإن الحال أدى إلى أنهم أضعف من الأضعف من بيت العنكبوت فلينتظروا أن يحل بهم مثل ما حل بأولئك، بأيدي جند الله من البشر أو الملائكة. أ هـ ﴿نظم الدرر حـ ٧ صـ ٣ ـ ٨﴾