وإقحام ﴿ قوماً ﴾ قبل ﴿ مسرفين ﴾ للدلالة على أن هذا الإسراف صار طبعاً لهم وبه قِوام قوميتهم، كما قدمناه عند قوله تعالى :﴿ لآياتتٍ لقوممٍ يعقلون ﴾ في سورة البقرة ( ١٦٤ ).
وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦)
لما ذكر إسرافهم في الإعراض عن الإصغاء لدعوة القرآن وأعقبه بكلام موجه إلى الرّسول ﷺ تسلية عما يلاقيه منهم في خلال الإعراض من الأذى والاستهزاء بتذكيره بأن حاله في ذلك حال الرّسل من قبله وسنةُ الله في الأمم، ووعد للرّسول ﷺ بالنصر على قومه بتذكيره بسنة الله في الأمم المكذّبة رسلَهم.
وجعل للتسلية المقام الأول من هذا الكلام بقرينة العدل عن ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة في قوله :﴿ فأهلكنا أشد منهم ﴾ كما سيأتي، ويتضمن ذلك تعريضاً بزجرهم عن إسرافهم في الإعراض عن النظر في القرآن.
فجملة ﴿ وكم أرسلنا من نبيء ﴾ معطوفة على جملة ﴿ إنا جعلناه قرآناً عربياً ﴾ [ الزخرف : ٣ ] وما بعدها إلى هنا عطفَ القصة على القصة.
و﴿ كَم ﴾ اسم دال على عدد كثير مُبهم، وموقع ﴿ كم ﴾ نصب بالمفعولية ل ﴿ أرسلنا ﴾، وهو ملتزَم تقديمه لأن أصله اسم استفهام فنقل من الاستفهام إلى الإخبار على سبيل الكناية.
وشاع استعماله في ذلك حتى صار الإخبار بالكثرة معنى من معاني ﴿ كَم ﴾.
والداعي إلى اجتلاب اسم العدد الكثير أن كثرة وقوع هذا الحكم أدخلُ في زجرهم عن مثله وأدخل في تسلية الرّسول ﷺ وتحصيل صبره، لأن كثرة وقوعه تؤذن بأنه سنة لا تتخلف، وذلك أزجر وأسلى.
و﴿ الأولين ﴾ جمع الأوَّل، وهو هنا مستعمل في معنى الماضين السابقين كقوله تعالى :﴿ ولقد ضَلّ قبلهم أكثر الأوَّلين ﴾ [ الصافات : ٧١ ] فإنّ الذين أهلكوا قد انقرضوا بقطع النظر عمن عسى أن يكون خَلَفَهم من الأمم.