ومع ذلك فكيفما قلبت أمرهم وجدته شعبة يسيرة من كفر الاتحادية، ولك متشبثات قريش التي عابهم الله بها تشبثت بها الاتحادية حتى قولهم ﴿ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى﴾ [ الزمر : ٣ ] ولو قدم الهوى لكان المعنى أنه حول وصفه إلى الألوهية فاضمحل الهوى، ولم يبق إلا ما ينسب إلى الإلهية كما اضمحل الطين في : اتحدت الطين حرقاً، فصار المعنى أن العابد لا يتحرك إلا بحسب ما يأمره به الإله ويصير التركيب يفيد تعظيمه بغلبة الإثبات وإذهاب الهوى غاية الإذهاب، ولو كان التقديم في هذا بحسب السياق من غير اختلاف المعنى لقدم هنا الهوى لأن السياق والسباق له وقد تقدم في سورة الفرقان ما ينفع هنا ومفعول " رأى " الثاني مقدر يدل عليه قوله آخر الكلام ﴿فمن يهديه﴾ تقديره : أيمكن أحداً غير الله هدايته ما دام هواه موجوداً، وعن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ : ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه - انتهى.
ومعناه أنه يهوي بصاحبه في الهواء الممدود وهو الفضاء، أي ينزل به عن درجة عليا إلى ما دونها.
فهو في سفول ما دام تابعاً له لأنه بحيث لا قرار ولا تمكن، فلذلك هو يوجب الهوان، قال الأصبهاني : سئل ابن المقفع عن الهوى، فقال : هوان سرقة نونه، فنظمه من قال :
نون الهوان من الهوى مسروقة...
وأسير كل هوى أسير هوان
وقال آخر ولم يخطىء المعنى وأجاد :
إن الهوى لهو الهوان بعينه...
فإذا هويت فقد لقيت هوانا
﴿وأضله الله﴾ أي بما له من الإحاطة ﴿على علم﴾ منه بما فطر عليه من أنه لا يكون أثر بلا مؤثر، ومن أنه لا يكون منفرداً بالملك إلا وهو مستحق للتفرد بالعبادة، وهو أنه لم يخلق الكون إلا حكيم، وأن الحكيم لا يدع من تحت يده يبغي بعضهم على بعض من غير فصل بينهم لا سيما وقد وعد بذلك ولا سيما والوعد بذلك في أساليب الإعجاز التي هم أعرف الناس بها، أو على علم من المضل بأن الضال مستحق لذلك لأنه جبله جبلة شر.


الصفحة التالية
Icon