ولما تكرر وعده سبحانه للذين آمنوا بالجنة بالاسم الأعظم الجامع وبعضها بالضمير العائد إليه، صار الوعد بها في غاية التحقق فعبر عنه هنا بالماضي المبني للمفعول إشارة إلى أنه أمر قد تحقق بأسهل أمر، وفرغ منه إلى أن صار حاضراً لا مانع منه إلا الوصف الذي علق به الوعد ووصفها بصفات تفيد القطع بأنه لا يقدر عليها إلا الله فصار مجرد ذكرها والإخبار به عنها بصيغة المجهول أعلى لأمره فقال :﴿التي وعد المتقون﴾ أي الذي حملتهم تقواهم بعد الوقوف عن كل فعل لم يدل عليه دليل على أن استمعوا منك فانتفعوا بما دللتهم عليه من أمور الدين حتى انقسم الناس إلى ثلاثة أقسام : مقبل عليه بكليته فهو متبع، ومعرض عنه جملة، ومستمع غير منتفع.
ولما كان التقدير : مثل بستان عظيم لا يسقط ورقه ولا ينقطع ثمره ولا يتفطن نعيمه لما فيه من الأنهار المتنوعة، وكان ما هو بهذه الصفة إنما هو موهوم لنا لا معلوم، طواه وذكره ما دل عليه من صفة الجنة الموعودة المعلومة بوعد الصادق الذي ثبت صدقه بالمعجزات فقال استئنافاً :﴿فيها﴾ أي الجنة الموعودة.
ولما كان ما يعهدونه من الجنان لا يحتمل أكثر من ثلاثة أنهار، عبر بالجمع الذي يستعار للكثرة إذا دلت قرينة، وهي هنا المدح والامتنان، فقال :﴿أنهار من ماء﴾ ولما كان ماء الدنيا مختلف الطعوم على ثلاثة : حلو وعذب وملح، مع اتحاد الأرض ببساطتها وشدة اتصالها للدلالة على أن فاعل ذلك قادر مختار، وقد يكون آسناً أي متغيراً عن الماء الذي يشرب بريح منتنة من أصل خلقه أو من عارض عرض له من منبعه أو مجراه قال :﴿غير آسن﴾ أي ثابت له في وقت ما شيء من الطعم أو الريح أو اللون بوجه من الوجوه وإن طالت إقامته وإن أضيف إليه غيره فإنه لا يقبل التغير بوجه.