﴿مثوى﴾ أي منزل ومقام ﴿لهم﴾ تنسيهم أول انغماسهم فيها كل نعيم كانوا فيه ثم لا يصير لهم نعيم ما أصلاً، بل لا ينفك عنهم العذاب وقتاً ما، فالآية من الاحتباك، ذكر الأعمال الصالحة ودخول الجنات أولاً دليلاً على حذف الفاسدة ودخول النار ثانياً، والتمتع والمثوى ثانياً دليلاً على حذف التعلل والمأوى أولاً، فهو احتباك في احتباك واشتباك مقارن لاشتباك.
ولما وعد سبحانه أنه ينصر من ينصره لأنه مولاه ويدخله دار نعمته، ويخذل من يعانده لأنه عاداه إلى أن يدخله دار شقوته، كان التقدير دليلاً على ذلك : فكأين من قوم هم أضعف من الذين اتبعوك نصرناهم على من كذبهم، فلا خاذل لهم، فعطف عليه قوله :﴿وكأين﴾ ولما كانت قوة قريش في الحقيقة ببلدهم، وكان الإسناد إليها أدل على تمالؤ أهلها وشدة اتفاقهم حتى كأنهم كالشيء الواحد قال :﴿من قرية﴾ أي كذبت رسولها ﴿هي أشد قوة﴾ وأكثر عدة ﴿من قريتك﴾ ولما كان إنزال هذه بعد الهجرة، عين فقال :﴿التي أخرجتك﴾ أي أخرجك أهلها متفقين في أسباب الإخراج من أنواع الأذى على كلمة واحدة حتى كأن قلوبهم قلب واحد فكأنها هي المخرجة - وهي مكة - كذبوك وآذوك حتى أخرجناك من عندهم لننصرك عليهم بمن أيدناك بهم من قريتك هذه التي آوتك من الأنصار نصراً جارياً على ما تألفونه وتعتادونه ﴿أهلكناهم﴾ بعذاب الاستئصال كما اقتضت عظمتنا، وحكى حالهم الماضية بقوله :﴿فلا ناصر لهم ﴾.
ولما كان هذا دليلاً شهودياً بعد الأدلة العقلية على ما تقدم الوعد به، سبب عنه الإنكار عليهم فقال :﴿أفمن كان﴾ أي في جميع أحواله ﴿على بينة﴾ أي حالة ظاهرة البيان في أنها حق ﴿من ربه﴾ المربي المدبر له المحسن إليه بما يقيم من الأدلة التي تعجز الخلائق أجمع عن أن يأتوا بواحد منها فبصر سوء عمله وأريه على حقيقته فرآه سيئاً فاجتنبه مخالفاً لهواه، قال القشيري : العلماء في ضياء برهانهم والعارفون في ضياء بيانهم.


الصفحة التالية
Icon