وتحقيق الآية هو : أن العالم إذا قصد كتمان العلم عصى، وإذا لم يقصده لم يلزمه التبليغ إذا عرف أنه مع غيره. وأمّا من سُئل فقد وجب عليه التبليغ لهذه الآية وللحديث. أما أنه لا يجوز تعليم الكافر القرآن والعلم حتى يُسلم، وكذلك لا يجوز تعليم المبتدع الجدال والحِجاج ليجادل به أهل الحق، ولا يُعلم الخصم على خصمه حجة يقطع بها ماله، ولا السلطان تأويلاً يتطرّق به إلى مكاره الرعية، ولا ينشر الرُّخص في السفهاء فيجعلوا ذلك طريقاً إلى ارتكاب المحظورات، وترك الواجبات ونحو ذلك. يُرْوَى عن النبيّ ـ ﷺ ـ أنه قال :" لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ولا تضعوها في غير أهلها فتظلموها " وروي عنه ـ ﷺ ـ أنه قال :" لا تعلّقوا الدُّرّ في أعناق الخنازير " يريد تعليم الفقه من ليس من أهله. وقد قال سُحْنون : إن حديث أبي هريرة وعمرو بن العاص إنما جاء في الشهادة. قال ابن العربي : والصحيح خلافه ؛ لأن في الحديث " مَن سُئل عن علم " ولم يقل عن شهادة، والبقاء على الظاهر حتى يرد عليه ما يزيله ؛ والله أعلم.
الثالثة : قوله تعالى :﴿مِنَ البينات والهدى﴾ يعمّ المنصوص عليه والمستنبط ؛ لشمول اسم الهُدَى للجميع.
وفيه دليل على وجوب العمل بقول الواحد ؛ لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب قبول قوله، وقال :﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ﴾ [البقرة : ١٦٠] فحكم بوقوع البيان بخبرهم.
فإن قيل : إنه يجوز أن يكون كل واحد منهم منهيًّا عن الكتمان ومأموراً بالبيان ليكثر المخبرون ويتواتر بهم الخبر. قلنا : هذا غلط ؛ لأنهم لم ينهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز عليهم التواطؤ عليه، ومن جاز منهم التواطؤ على الكتمان فلا يكون خبرهم موجباً للعلم ؛ والله تعالى أعلم.