البحث الثالث : إذا كان ورود الآية لبيان عدم جواز الافتخار بغير التقوى فهل لقوله تعالى :﴿إِنَّا خلقناكم﴾ فائدة ؟ نقول نعم، وذلك لأن كل شيء يترجح على غيره، فإما أن يترجح بأمر فيه يلحقه، ويترتب عليه بعد وجوده، وإما أن يترجح عليه بأمر هو قبله، والذي بعده كالحسن والقوة وغيرهما من الأوصاف المطلوبة من ذلك الشيء، والذي قبله فإما راجع إلى الأصل الذي منه وجد، أو إلى الفاعل الذي هو له أوجد، كم يقال في إناءين هذا من النحاس وهذا من الفضة، ويقال هذا عمل فلان، وهذا عمل فلان، فقال تعالى لا ترجيح فيما خلقتم منه لأنكم كلكم من ذكر وأنثى، ولا بالنظر إلى جاعلين لأنكم كلكم خلقكم الله، فإن كان بينكم تفاوت يكون بأمور تلحقكم وتحصل بعد وجودكم وأشرفها التقوى والقرب من الله تعالى.
ثم قال تعالى :﴿وجعلناكم شُعُوباً وَقَبَائِلَ﴾ وفيه وجهان : أحدهما :﴿جعلناكم شُعُوباً﴾ متفرقة لا يدري من يجمعكم كالعجم، وقبائل يجمعكم واحد معلوم كالعرب وبني إسرائيل وثانيهما :﴿جعلناكم شُعُوباً﴾ داخلين في قبائل، فإن القبيلة تحتها الشعوب، وتحت الشعوب البطون وتحت البطون الأفخاذ، وتحت الأفخاذ الفصائل، وتحت الفصائل الأقارب، وذكر الأعم لأنه أذهب للافتخار، لأن لأمر الأعم منها يدخله فقراء وأغنياء كثيرة غير محصورة، وضعفاء وأقوياء كثيرة غير معدودة، ثم بيّن فائدة ذلك وهي التعارف وفيه وجهان : أحدهما : أن فائدة ذلك التناصر لا التفاخر وثانيهما : أن فائدته التعارف لا التناكر، واللمز والسخرية والغيبة تفضي إلى التناكر لا إلى التعارف وفيه معان لطيفة الأولى : قال تعالى :﴿إِنَّا خلقناكم﴾ وقال :﴿وجعلناكم﴾ لأن الخلق أصل تفرع عليه الجعل ﴿شُعُوباً﴾ فإن الأول هو الخلق والإيجاد، ثم الاتصاف بما اتصفوا به، لكن الجعل شعوباً للتعارف والخلق للعبادة كما قال تعالى :


الصفحة التالية