﴿وهو بكل شيء عليم﴾ [البقرة : ٢٩] قبل قوله ﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة﴾ [البقرة : ٣٠] فإن التوحيد هو المقصود بالذات وعنه تنشأ جميع العبادات، فلما قال أولاً ﴿يا أيها الناس اعبدوا ربكم﴾ [البقرة : ٢١] أتبعه في قوله ﴿الذي خلقكم﴾ [البقرة : ٢١] إلى آخره بوصف هو دليل استحقاقه للعبادة، فلما قام الدليل قال :﴿فلا تجعلوا لله أنداداً﴾ [البقرة : ٢٢] إعلاماً بأنه لا شريك له في العبادة كما أنه قد تبين أنه لا شريك له في الخلق، ثم أتبعه بما يليق لذلك المقام مما تقدم التنبيه عليه، ثم رجع إليه قائلاً ثانياً ﴿كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم﴾ [البقرة : ٢٨] إلى آخرها فأعاد الدليل على وجه أبين من الأول وأبسط، فلما تقرر على وجه لا مطعن فيه أمر الوحدانية والإعادة كان الأنسب ما أولاه من الآيات السابقة لما ذكر فيها من غير ذلك من المهمات إلى أن صار إلى ذكر الكاتمين والتائبين والمصرين وذكر ما أعد لكل من الجزاء فأتبع ذلك هذه الآية عاطفاً لها على ما ذكرته على وجه أصرح مما تقدم في إثبات التوحيد بياناً لما هو الحق وإشارة إلى أنه تعالى ليس كملوك الدنيا الذين قد يحول بينهم وبين إثابة بعض الطائعين وعقوبة بعض العاصين بعض أتباعهم، فإنه واحد لا كفؤ له بل ولا مداني فلا مانع لنفوذ أمره ؛ ولا يستنكر تجويز هذا العطف لأنه جرت عادة البلغاء أن أحدهم إذا أراد إقامة الحج على شيء لأمر يرتبه عليه أن يبدأ بدليل كاف ثم يتبعه تقريب الثمرات المجتناة منه ثم يعود إلى تأكيده على وجه آخر لتأنس به النفوس وتسرّ به القلوب، وربما كان الدليل طويل الذيول كثير الشعب، فيشرح كل ما يحتاج إليه من ذيوله وما يستتبعه من شعبه، فإذا استوفى ذلك ورأى أن الخصم لم يصل إلى غاية الإذعان أعاد له الدليل على وجه آخر عاطفاً له على الوجوه الأول تذكيراً بما ليس بمستنكر ذلك في مجاري عاداتهم ومباني
خطاباتهم ؛ ومن تأمل مناظرات الباقلاني وأضرابه من أولي الحفظ الواسع والتبحر في العلم علم ذلك.


الصفحة التالية
Icon