قال القاضي أبو محمد : ويقوى عندي أن يكون ﴿ الذي ﴾ ابتداء، ويتضمن القول حينئذ بني آدم والشياطين المغوين لهم في الدنيا، ولذلك تحرك القرين الشيطان المغوي في الدنيا، فرام أن يبرئ نفسه ويخلصها بقوله :﴿ ربنا ما أطغيته ﴾ لأنه كذب من نفي الإطغاء عن نفس جملة، والحقيقة أنه أطغاه بالوسوسة والتزين، وأطغاه الله بالخلق، والاختراع حسب سابق قضائه الذي هو عدل منه، لا رب غيره، وبوصف الضلال بالبعيد مبالغة، أي لتعذر رجوعه إلى الهدى.
وقوله تعالى :﴿ لا تختصموا لدي ﴾ معناه : قال الله ﴿ لا تختصموا لدي ﴾ بهذا النوع من المقاولة التي لا تفيد شيئاً إذ قد استوجب جميعكم النار، وقد أخبر بأنه تقع الخصومة لديه في الظلامات ونحوها مما فيه اختصاص. واقتضاء فائدة بقوله تعالى :﴿ ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ﴾ [ الزمر : ٣١ ]، وجمع الضمير في قوله :﴿ لا تختصموا ﴾ يريد بذلك مخاطبة جميع القرناء، إذ هو أمر شائع لا يقف على اثنين فقط، وهذا كما يقول الحاكم لخصمين : لا تغلطوا علي، يريد الخصمين ومن هو في حكمهما. وتقدمته إلى الناس بالوعيد هو ما جاءت به الرسل والكتب من تعظيم الكفرة.
مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩)
المعنى : قدمت بالوعيد أني أعذب الكفار في ناري، فلا يبدل قولي ولا ينقص ما أبرمه كلامي، ثم أزال عز وجل موضع الاعتراض بقوله :﴿ وما أنا بظلام للعبيد ﴾ أي هذا عدل فيهم، لأني أعذرت وأمهلت وأنعمت بالإدراكات وهديت السبيل والنجدين وبعثت الرسل وقال الفراء معنى قوله :﴿ ما يبدل القول لدي ﴾ ما يكذب لدي، لعلمي بجميع الأمور.
قال القاضي أبو محمد : فتكون الإشارة على هذا إلى كذب الذي قال :﴿ ما أطغيته ﴾ [ ق : ٢٧ ] وقوله تعالى :﴿ يوم يقول ﴾ يجوز أن يعمل في الظرف قوله :﴿ بظلام ﴾ ويجوز أن يعمل فيه فعل مضمر.


الصفحة التالية
Icon