أخرجه مسلم، والمعنى أن اللّه تعالى يقول إني خلقت العباد للعبادة ليعلموا أنهم مخلوقون لها، وأنه تعالى غير محتاج لهم ولا لعبادتهم ولا يريد الاستعانة منهم كما يستعين ملاك العبيد بعبيدهم لمصالحهم، لأن اللّه غني عن كل خلقه "إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ" لهم جميعا وأن الترازق الذي يجري بينهم لبعضهم بتسخيره وتقديره وجعله الأسباب مرتبة على المسببات، وإلا فكل يأخذ رزقه الذي قدره له اللّه، "ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ" ٥٨ الشديد الذي لا يلحقه في أفعاله تعب ولا نصب ولا مشقة، فيوصل أرزاق عباده إليهم ولو لم يطلبوها أو يعملوا لأجلها "فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا" من كفار مكة الذين أفنوا عمرهم بغير ما خلقوا له وأشركوا به غيره في الدنيا "ذَنُوباً" حظا وافيا ونصيبا ضافيا من العذاب يوم القيامة "مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ" الكفار من الأمم الماضية الهالكة قبلهم "فَلا تَسْتَعْجِلُونِ" ٥٩ بإنزاله فليترقبوا وليتربصوا له رويدا فهو نازل بهم لا محالة إن أصروا على ظلمهم وحينئذ يطلبون تأخيره فلا يمهلون لحظة واحدة، وفي هذه الجملة تهديد عظيم لهؤلاء الكفار لو عقلوه.
واعلم أن استعمال الذنوب بفتح الذال بمعنى الحظ والنصيب شائع في العربية، قال علقمة بن عبد التيميّ يمدح الحارث بن أبي شمر الغساني وكان أسر أخاه شاسا :
وفي كل حي قد ضبطت بنعمة فحق لشاس من نداك ذنوب
فلما سمعه قال نعم وأذنبة وأطلقه من أسره، وقال الآخر :
لعمرك والمنايا طارقات ولكل بني أب منها ذنوب
وقيد قوله بابن الأب لاستثناء عيسى عليه السلام، لأنه لم يمت، على أنه عليه السلام قد يكون له نصيب من المنايا بعد نزوله كما صح في الأخبار، راجع الآية ٥٨ من سورة الزخرف المارة، وهو من الأصل الدلو الذي يستسقى به الماء في البئر ويقتسم به الماء، قال الراجز :
إنا إذا نازلنا غريب له ذنوب ولنا ذنوب
وإذ أبيتم قلنا القليب.


الصفحة التالية
Icon