المسألة الخامسة :
كثيراً ما ذكر الله موسى فأخر ذكره عليه السلام لأنه كان مبتلى في أكثر الأمر بمن حواليه وهم كانوا مشركين ومتهودين والمشركون كانوا يعظمون إبراهيم عليه السلام لكونه أباهم، وأما قوله تعالى :﴿وفى﴾ ففيه وجهان أحدهما : أنه الوفاء الذي يذكر في العهود وعلى هذا فالتشديد للمبالغة يقال وفى ووفى كقطع وقطع وقتل وقتل، وهو ظاهر لأنه وفى بالنذر وأضجع ابنه للذبح، وورد في حقه :﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا﴾ [ الصافات : ١٠٥ ] وقال تعالى :﴿إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين﴾ [ الصافات : ١٠٦ ] وثانيهما : أنه من التوفية التي من الوفاء وهو التمام والتوفية الإتمام يقال وفاه أي أعطاه تاماً، وعلى هذا فهو من قوله :﴿وَإِذَا ابتلى إبراهيم رَبُّهُ بكلمات فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [ البقرة : ١٢٤ ] وقيل :﴿وفى﴾ أي أعطى حقوق الله في بدنه، وعلى هذا فهو على ضد من قال تعالى فيه :﴿وأعطى قَلِيلاً وأكدى﴾ مدح إبراهيم ولم يصف موسى عليه السلام، نقول : أما بيان توفيته ففيه لطيفة وهي أنه لم يعهد عهداً إلا وفى به، وقال لأبيه :﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي﴾ [ يوسف : ٩٨ ] فاستغفر ووفى بالعهد ولم يغفر الله له، فعلم ﴿أن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى﴾ وأن وزره لا تزره نفس أخرى، وأما مدح إبراهيم عليه السلام فلأنه كان متفقاً عليه بين اليهود والمشركين والمسلمين ولم ينكر أحد كونه وفياً، وموفياً، وربما كان المشركون يتوقفون في وصف موسى عليه السلام، ثم قال تعالى :﴿أَلاَّ تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى﴾ وقد تقدم تفسيره في سورة الملائكة، والذي يحسن بهذا الموضع مسائل :
الأولى : أنا بينا أن الظاهر أن المراد من قوله :﴿بِمَا فِى صُحُفِ موسى﴾ هو ما بينه بقوله ﴿أَلاَّ تَزِرُ﴾ فيكون هذا بدلاً عن ما وتقديره أم لم ينبأ بألا تزر وذكرنا هناك وجهين أحدهما : المراد أن الآخرة خير وأبقى وثانيهما : الأصول.
المسألة الثانية :