إذن، فتقليد الأجيال اللاحقة للأجيال السابقة أمر تقتضيه طبيعة الوجود. وحين يدعو الله الناس أن يتبعوا ما ينزله على الرسل فهو ينهاهم أن يتبعوا تقليد الآباء في كل حركاتهم، لأنه قد تكون حركة الآباء قد اختلت بالغفلة عن المنهج أو بنسيان المنهج، لذلك يدعونا ويأمرنا سبحانه : أن ننخلع عن هذه الأشياء ونتبع ما أنزل الله، ولا نهبط إلى مستوى الأرض، لأن عادات ومنهج الأرض قد تتغير، ولكن منهج السماء دائما لا يتغير، فاتبعوا ما أنزل الله. والناس حين يحتجون يقولون : بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا. وتلك قضية تبريرية في الوجود، ولو كان ذلك حقا وصدقا، ومطابقا للواقع، لما كرر الله الرسالات بعد أن علم آدم كل المنهج الذي يريد ؛ لأننا لو كنا نتبع ما ألفينا عليه آباءنا. لكان أبناء آدم سيتبعون ما كان يفعله آدم، وأبناء أبناء آدم يتبعون آباءهم، وهكذا يظل منهج السماء موجوداً متوارثاً فلا تغيير فيه. إذن فما الذي اقتضى أن يتغير منهج السماء ؟
إن هذا دليل على أن الناس قد غيروا المنهج، ولذلك فقولهم :" نتبع ما ألفينا عليه آباءنا" هي قضية مكذوبة، لأنهم لو اتبعوا ما وجدوا عليه آباءهم ؛ لظل منهج الله في الأرض مضيئا غير متأثر بغفلة الناس ولا متأثرا بانحرافات أهل الأرض عن منهج السماء. وهو تبرير يكشف أن ما وجدوا عليه آباءهم يوافق أهواءهم. وقوله الحق :" اتبعوا" أي اجعلوا ما أنزل عليكم من السماء متبوعا وكونوا تابعين لهذا المنهج ؛ لا تابعين لسواه ؛ لأن ما سوى منهج السماء هو منهج من صناعة أهل الأرض، وهو منهج غير مأمون، وقولهم :" ما ألفينا عليه آباءنا" أي ما وجدنا عليه آباءنا، وما تفتحت عليه عيوننا فوجدناه حركة تحتذي وتقتدي.