أما هذه الجمادات التي تعلم بالضرورة أنها جمادات يستحيل أن يقال : إنها تسبح الله على سبيل النطق بذلك التسبيح، إذ لو جوزنا صدور الفعل المحكم عن الجمادات لما أمكننا أن نستدل بأفعال الله تعالى على كونه عالماً حياً، وذلك كفر، بل الحق أن التسبيح الذي هو القول لا يصدر إلا من العاقل العارف بالله تعالى، فينوي بذلك القول تنزيه ربه سبحانه، ومثل ذلك لا يصح من الجمادات، فإذاً التسبيح العام الحاصل من العاقل والجماد لا بد وأن يكون مفسراً بأحد وجهين الأول : أنها تسبح بمعنى أنها تدل على تعظيمه وتنزيهه والثاني : أن الممكنات بأسرها منقادة له يتصرف فيها كيف يريد ليس له عن فعله وتكوينه مانع ولا دافع، إذا عرفت هذه المقدمة، فنقول : إن حملنا التسبيح المذكور في الآية على التسبيح بالقول، كان المراد بقوله :﴿مَا فِي السموات﴾ من في السموات ومنهم حملة العرش :﴿فَإِنِ استكبروا فالذين عِندَ رَبّكَ يُسَبّحُونَ﴾ [ فصلت : ٣٨ ] ومنهم المقربون :﴿قَالُواْ سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ﴾ [ سبأ : ٤١ ] ومن سائر الملائكة :﴿قَالُواْ سبحانك مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا﴾ [ الفرقان : ١٨ ] وأما المسبحون الذين هم في الأرض فمنهم الأنبياء كما قال ذو النون :﴿لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سبحانك﴾ [ الأنبياء : ٨٧ ] وقال موسى :﴿سبحانك إِنّي تُبْتُ إِلَيْكَ﴾ [ الأعراف : ١٤٣ ] والصحابة يسبحون كما قال :﴿سبحانك فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [ آل عمران : ١٩١ ] وأما إن حملنا هذا التسبيح على التسبيح المعنوي : فأجزاء السموات وذرات الأرض والجبال والرمال والبحار والشجر والدواب والجنة والنار والعرش والكرسي واللوح والقلم والنور والظلمة والذوات والصفات والأجسام والأعراض كلها مسبحة خاشعة خاضعة لجلال الله منقادة لتصرف الله كما قال عز من قائل :


الصفحة التالية
Icon