ولما كان المقام عظيماً، والإنسان - وإن بذلك الجهد - ضعيفاً، لا يسعه إلا العفو سواء كان سابقاً أو لاحقاً من الأبرار والمقربين، نبه على ذلك بقوله في السابقين ؛ ﴿إلى مغفرة﴾ أي ستر لذنوبكم عيناً وأثراً ﴿من ربكم﴾ أي المحسن إليكم بأن رباكم وطوركم بعد الإيجاد بأنواع الأسباب بأن تفعلوا أسباب ذلك بامتثال أوامره سبحانه واجتناب زواجره.
ولما كان المقصود من المغفرة ما يترتب عليها من نتيجتها قال :﴿وجنة﴾ أي وبستان هو من عظم أشجارها واطراد أنهارها بحيث يستر داخله.
ولما كان ذلك لا يكمل إلا بالسعة قال :﴿عرضها﴾ أي فما ظنك بطولها.
ولما كان السياق كما بين للتجرد عن فضول الأموال فقط لأن الموعود به دون ما في آل عمران فأفرده وصرح بالعرض فقال :﴿كعرض السماء والأرض﴾ أي لو وصل بعضها ببعض، فآية آل عمران تحتمل الطول وجميع السماوات والأرض على هيئتها، ويحتمل أن يكون ذلك على تقدير أن تقد كل واحدة منهما ويوصل رأس كل قدة برأس الأخرى، وتمتد جميع القدات إلى نهايتها على مثل الشراك، وهذه الآية ظاهرها عرض واحد وأرض واحدة ﴿أعدت﴾ أي هيئت هذه الجنة الموعود بها وفرغ من أمرها بأيسر أمر ﴿للذين آمنوا﴾ أي أوقعوا هذه الحقيقة وهم من هذه الأمة إيقاعاً لا ريب معه ولو أنه على أدنى الوجوه فكانوا من السابقين، وهذا يدل على أن الجنة موجودة الآن في آيات كثيرة، وأن الإيمان كاف في استحقاقها، وأحاديث الشفاعة مؤيدة لذلك ﴿بالله﴾ أي الذي له جميع العظمة لأجل ذاته مخلصين له بالإيمان ﴿ورسله﴾ فلم يفرقوا بين أحد منهم، فهذه الجنة غير مذكورة في آل عمران، وإن قيل : إن السماء هنا للجنس لكون السياق فيه الصديقون والشهداء كانت أبلغته تلك بالتصريح بالجمع وعدم التصريح بالعرض لكونها في سياق صرح فيه بالجهاد، وقد جرت السنة الإلهية بإعظام للمجاهدين لشدة الخطر في أمر النفس وصعوبة الخروج عنها وعن جميع المألوفات.