هذه المصالح فلو لم يوجد الذهب في الدنيا ما كان يختل شيء من مصالح الدنيا، ولو لم يوجد الحديد لاختل جميع مصالح الدنيا، ثم إن الحديد لما كانت الحاجة إليه شديدة، جعله سهل الوجدان، كثير الوجود، والذهب لما قلت الحاجة إليه جعله عزيز الوجود، وعند هذا يظهر أثر وجود الله تعالى ورحمته على عبيده، فإن كل ما كانت حاجتهم إليه أكثر، جعل وجدانه أسهل، ولهذا قال بعض الحكماء إن أعظم الأمور حاجة إليه هو الهواء، فإنه لو انقطع وصوله إلى القلب لحظة لمات الإنسان في الحال، فلا جرم جعله الله أسهل الأشياء وجداناً، وهيأ أسباب التنفس وآلاته، حتى إن الإنسان يتنفس دائماً بمقتضى طبعه من غير حاجة فيه إلى تكلف عمل، وبعد الهواء الماء، إلا أنه لما كانت الحاجة إلى الماء أقل من الحاجة إلى الهواء جعل تحصيل الماء أشق قليلاً من تحصيل الهواء، وبعد الماء الطعام، ولما كانت الحاجة إلى الطعام أقل من الحاجة إلى الماء، جعل تحصيل الطعام أشق من تحصيل الماء، ثم تتفاوت الأطعمة في درجات الحاجة والعزة فكل ما كانت الحاجة إليه أشد، كان وجدانه أسهل، وكل ما كان وجدانه أعسر كانت الحاجة إليه أقل، والجواهر لما كانت الحاجة إليها قليلة جداً، لا جرم كانت عزيزة جداً، فعلمنا أن كل شيء كانت الحاجة إليه أكثر كان وجدانه أسهل، ولما كانت الحاجة إلى رحمة الله تعالى أشد من الحاجة إلى كل شيء فنرجو من فضله أن يجعلها أسهل الأشياء وجداناً، قال الشاعر :
سبحان من خص العزيز بعزه.. والناس مستغنون عن أجناسه
وأذل أنفاس الهواء وكل ذي.. نفس فمحتاج إلى أنفاسه
ثم قال تعالى :﴿وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب إِنَّ الله قَوِىٌّ عَزِيزٌ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى :
المعنى وليعلم الله من ينصره، أي ينصر دينه، وينصر رسله باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين بالغيب أي غائباً عنهم.