الثاني : أنَّ في الكلام حذف مضافٍ من الأوَّل، تقديره :" ولكنَّ ذا البِرِّ من آمن " ؛ كقوله تعالى :﴿والعاقبة للتقوى﴾ [طه : ١٣٢] أي : لذي التقوى ؛ وقوله ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ الله والله﴾ [آل عمران : ١٦٣] أي : ذوو درجاتٍ، قاله الزَّجَّاج.
الثالث : أن يكون الحذف من الثاني : أي :" وَلكِنَّ البِرَّ بِرُّ مَنْ آمَنَ " وهذا تخريجُ سيبويه، واختياره، وإنَّما اختاره ؛ لأنَّ السابق، إنَّما هو نفي كون البِرِّ هو تولية الوجهِ قبل المشرق والمغرب، فالذي يستدركُ، إنَّما هو من جنس ما ينفى ؛ ونظير ذلك :" لَيْسَ الكَرَمُ أنْ تَبْذُلَ دِرْهَماً، ولكَّن الكَرَمَ بذل الآلاَفِ " ولا يناسبُ :" ولكِنَّ الكَرِيمَ مَنْ يَبْذُلُ الآلاَفَ " وحذف المضاف كثيرٌ في الكلام، كقوله :﴿وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل﴾ [البقرة : ٩٣]، أي : حُبَّ العجل، ويقولون : الجود حاتم، والشعير زهير، والشجاعة عنترة، [وقال الشاعر :[الطويل ]
فَإِنَّما هِيَ إقْبَالٌ وَإِدْبَارُ
أي : ذات إقبالٍ، وذات إدبار.
وقال النَّابغة :[المتقارب ]
٩١٣ - وَكَيْفَ نُوَاصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ... خِلاَلَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبِ
أي : كخلالة أبي مرحب]، وهذا اختيار الفرَّاء، والزَّجَّاج، وقطرب.
وقال أبو عليٍّ : ومثل هذه الآية الكريمة قوله :﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج﴾ [التوبة : ١٩]، ثم قال :﴿كَمَنْ آمَنَ بالله﴾ [التوبة : ١٩] ؛ ليقع التمثيل بين مصدرين، أو بين فاعلين ؛ إذ لا يقع التمثيل بين مصدرٍ، وفاعلٍ.
الرابع : أن يطلق المصدر على الشَّخص مبالغةً ؛ نحو : رجل عدل.
ويحكى عن المبرِّد :" لو كنت ممَّن يقرأ القرآن، لقرأت " وَلَكِنَّ البَرَّ " بفتح الباء " وإنَّما قال ذلك ؛ لأن " البَرَّ " اسم فاعل، نقول بَرَّ يَبَرُّ، فهو بَارٌّ، فتارة تأتي به على فاعل، وتارة على فعل.


الصفحة التالية
Icon