إما خوفا من اتضاع مرتبتهم ونقصان قدرهم عندهم وإما طموحا إلى إحسانهم أو لأنهم شركاؤهم فى بعض أحوالهم من حب الدنيا وجمعها والحرص فى طلبها أو طلب مناصبها وحب رياستها أو بالتنعم فى المأكول والمشروب والملبوس والمركوب والمسكن والأوانى وآلات البيت والأمتعة والزينة فى كل شىء والخدم والخيول وغير ذلك، فعند ذلك يداهنون ويأكلون ثمنا قليلا ولا يأكلون إلا نار الحرص والشهوة والحسد التى تطلع على الأفئدة وتأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب
واعلم أن فى كل عمل وفعل وقول يصدر من العبد على خلاف الشرع شررا يجتنى من نار السعير فتحصل فى قلب العبد تلك النار فى الحال وفى التى تصدر من العبد على وفق الشرع شررا يجتنى من نار المحبة فتظهر فى القلب فتحرق كل محبوب غير الله فى قلب كما أن نار السعير تحرق فى القلب الحسنات والأخلاق الحميدة فيأكلون نارا فى الحال وإنما قال ما يأكلون فى بطونهم إلا النار ؛ لأن فسادهم كان فى باطل فكان عذابهم فى البطون، وإنما لا يكلمهم الله يوم القيامة لأنهم كتموا كلام الله فى الدنيا ولا تكلموه بالصدق فكان جزاء سيئة سيئة مثلها وإنما لا يزكيهم لأن تزكية النفس للإنسان مقدرة من الإيمان والأعمال الصالحة بصدق النية من تهذيب الأخلاق بآداب الشرع فأولئك المداهنون من العلماء هم الذين اشتروا حب الدنيا بهدى إظهار الحق وآثروا الخلق على الحق والمداهنة على أفضل الجهاد قال ـ عليه السلام ـ " إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " وإنما كانت أفضل لأن الجهاد بالحجة والبرهان جهاد أكبر بخلاف الجهاد بالسيف والسنان فإنه جهاد أصغر ومدار كتمان الحق حب الدنيا وحبها رأس كل خطيئة.
قال الحسن إن الزبانية إلى فسقة حملة القرآن أسرع منهم عبدة الأوثان فيقولون ربنا ما بالنا يتقدمون إلينا فيقول الله ليس من يعلم كمن لا يعلم فمن اشترى الدنيا بالدين فقد وقع فى خسران مبين وكان دائما فى منازعة الشيطان، كما حكى أن رجلا قال للشيخ أبى مدين :
ما يريد منا الشيطان ـ شكاية منه ـ ؟
فقال الشيخ : إنه جاء قبلك وشكا منك وقال أعلم أنه سيشكونى ولكن الله ملكنى الدنيا فمن نازعنى فى ملكى لا أتسلى بدون إيمانه فمن كف يده عن الدنيا وزينتها فقد استراح من تعبها ومحنتها. أ هـ ﴿روح البيان حـ ١ صـ ٣٤٨ ـ ٣٤٩﴾
فائدة
قوله تعالى ﴿إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم﴾ ١٧٤ الآية في السورة على هذا النسق وفي آل عمران ﴿أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم﴾
لأن المنكر في هذه السورة أكثر فالمتوعد فيها أكثر، وإن شئت قلت زاد في آل عمران ﴿ولا ينظر إليهم﴾ في مقابلة ﴿ما يأكلون في بطونهم إلا النار﴾. أ هـ ﴿أسرار التكرار فى القرآن صـ ٤٠﴾