قال تعالى "اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ" أي استحوى واستولى عليهم فملك قلوبهم وغلبهم على أمرهم وأحاط بهم من كلّ جانب، وجاء هذا الفصل على خلاف قاعدة اللّغويين من أن الواو إذا تحركت بالفتحة تقلب الفاء على هذه القاعدة يكون استحاذ إلّا أنه جاء على الأصل، ومثله استصوب واستشوف، والأحوذي السّائس الضّابط للأمور، قالت عائشة رضي اللّه عنها كان عمر أحوذيا أي مدبرا للأمور ضابطها وهؤلاء الّذين استولى عليهم الشّيطان "فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ" إذ أشغل ليهم عن التفكير والمراقبة بجمع حطام الدّنيا وتدبير شئونها، فأشغل حواسهم الظّاهرة والباطنة وحصرها في أمور الدّنيا وصرفها عما يتعلق بالآخرة فلم يبق في
قلوبهم خطرة للتفكير في آلاء اللّه أو لمحة لشكر نعمائه أو حركة للنظر في ملكوت أرضه وسمائه وأشغل ألسنتهم عن ذكر اللّه بالغيبة والنميمة وقول الزور في الكذب والافتراء والبهتان، فلم يترك لها فسحة لتلاوة شيء من ذكره ولا فرجة لتحميده وتسبيحه، وأشغل جوارحهم بالأكل والشّرب واللّباس والمساكن
فلم يفسح لهم طريقا للانفاق وعمل الخير ومساواة الفقراء والمساكين "أُولئِكَ" الّذين هذه صفتهم هم "حِزْبُ الشَّيْطانِ" وأولياؤه وحلفاؤه وأنصاره "أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ" (١٩) في الدّارين.
قال تعالى "إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" يعادونهما وأوليائهما ويتعدون حدودها ولا يعملون بأوامرها "أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ" (٢٠) في جملة من أذلهم اللّه في الدّنيا وإن ما هم عليه من النّعم الفانية لا قيمة لها لأن مرجعهم للآخرة التي سيهانون فيها ويحقرون ويعلمون أن ما رأوه في الدّنيا هو ذلّ أيضا بسبب تكالبهم على جمعها وعدم مبالاتهم بجمعه إذ لا يتورعون عن مغصوب وحرام، فالعز الذي نالوه من هذا المال هو ذل أيضا من حيث النّتيجة.