ولما كان الخطاب لأعلى الخلق، وكان المقام لإحاطة العلم، وكان خطابه ـ ﷺ ـ بذلك إشارة للسامعين إلى وعورة هذا المقام وأنه بحيث لا يكاد يتصوره ولا يفهمه حق فهمه إلا هو ـ ﷺ ـ ومن ألحق به ممن صفا فهمه وسوى ذهنه وانخلع من الهوى والعوائق، جمع وأكد بإعادة الموصول، فإفراده ـ ﷺ ـ بالخطاب بعد أن كان مع المظاهرين ثم المحادين إشارة إلى التعظيم وتأكيده تنبيه على صعوبة المقام بالتعميم ليرعى حق الرعي توفية بحق التعليم كما رعته الصديقة أم المؤمنين عائشة ـ رضى الله عنه ـ ا في قولها ( سبحان من وسع سمعه الأصوات ) يعني في سماعه مجادلة المرأة وهو في غاية الخفاء فقال تعالى :﴿وما في الأرض﴾ أي كليات ذلك وجزئياته، لا يغيب عنه شيء منه، بدليل أن تدبيره محيط بذلك على أتم ما يكون، وهو يخبر من يشاء من أنبيائه وأصفيائه بما يشاء من أخبار ذلك، القاصية والدانية، الحاضرة والغائبة، الماضية والآتية، فيكون كما أخبر.
ولما كان ذلك وإن كان معلوماً يتعذر إحاطة الإنسان بكل جزئي منه، دل عليه بما هو أقرب منه فقال :﴿ما تكون﴾ بالفوقانية في قراءة أبي جعفر لتأنيث النجوى إشارة إلى العلم بها ولو ضعفت إلى أعظم حد، وقرأ الباقون بالتحتانية للحائل، ولأن التأنيث غير حقيقي، وهي على كل حال من " كان " التامة، وعمم النفي بقوله :﴿من نجوى﴾ أي تناجي متناجين، جعلوا نجوى مبالغة، والنجوى : السر والمسارون، اسم ومصدر - قاله في القاموس، وقال عبد الحق في الواعي : النجوى الكلام بين الاثنين كالسر والتشاور - انتهى.
وأصله من النجوى - للمرتفع من الأرض، والنجو : الخلوص والقطع وكشط الجلد والحدث والكشف، لأن المسارر يرفع ما كان في ضميره إلى صاحبه ويخلصه بمساررته له ويقطعه من ضميره ويكشطه منه ويحدثه ويكشفه.


الصفحة التالية
Icon