ولما كان الوطن عديل الروح لأنه للبدن كالبدن للروح، فكان الخروج منه في غاية العسر، دل على مزيد قهرهم به بأن قال :﴿من ديارهم﴾ ولما كان كان منهم من جلا من المدينة الشريفة إلى خيبر، وهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب ولحق سائرهم بأريحا من أرض الشام أرض المحشر، ولحق بعضهم بالحيرة، لوح إلى فتح خيبر وحشرهم منها حشراً ثانياً بقوله معللاً أو موقتاً :﴿لأول﴾ أي لأجل أول أو عند أول ﴿الحشر﴾ وفي ذلك إشارة إلى أن كل بلد حشروا إليه سيفتح، ويزلزلون منه زلزلة أخرى، لا تزال مصائبهم بأهل الإسلام قائمة حتى يكون الحشر الأعظم بالقيامة، والحشر : الجمع من مكان والسوق إلى غيره بكره، وسمي أولاً لأنهم أول من أجلي من اليهود من جزيرة العرب، والحشر الثاني لهم من خيبر على زمن عمر ـ رضى الله عنه ـ، وعند ابن إسحاق أن إجلاءهم في مرجع النبي ـ ﷺ ـ من أحد وفتح قريظة في مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان، قال لهم النبي ـ ﷺ ـ :" اخرجوا قالوا : إلى أين، قال : إلى أرض المحشر "، وقال ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ : من شك أن المحشر بأرض الشام فليقرأ هذه الآية.
انتهى، وهذا الحشر يدل على المحشر الأعظم وبينه على قوله ـ ﷺ ـ :
" بعثت أنا والساعة كهاتين ".
ولما كان قد أخبر أن حشرهم لم يكن بسبب غير محض قدرته، استأنف شرح ذلك بقوله :﴿ما ظننتم﴾ أي أيها المؤمنون ﴿أن يخرجوا﴾ أي يوقعوا الخروج من شيء أورثتموه منهم لما كان لكم من الضعف ولهم من القوة لكثرتهم وشدة بأسهم وشكيمتهم وقرب بني قريظة منهم فكانوا بصدد مظاهرتهم، وأهل خيبر أيضاً غير بعيدين عنهم وكلهم أهل ملتهم، والمنافقون من أنصارهم وأسرتهم، فخابت ظنونهم في جميع ذلك وفالت أراؤهم وسلط عليهم المؤمنون على قلتهم وضعفهم، وإذا أراد الله نصر عبد استأسد أرنبه وإذا أراد قهر عدو استنوق أسده.