ثم يقف الإنسان أمام كلمات حاطب، وهو في لحظة ضعفه، ولكن تصوره لقدر الله وللأسباب الأرضية هو التصور الإيماني الصحيح.. ذلك حين يقول:"أردت أن تكون لي عند القوم يد.. يدفع الله بها عن أهلي ومالي".. فالله هو الذي يدفع، وهذه اليد لا تدفع بنفسها، إنما يدفع الله بها. ويؤكد هذا التصور في بقية حديثه وهو يقول:"وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع.. الله.. به عن أهله وماله" فهو الله حاضر في تصوره، وهو الذي يدفع لا العشيرة. إنما العشيرة أداة يدفع الله بها..
ولعل حس رسول الله الملهم قد راعى هذا التصور الصحيح الحي في قول الرجل، فكان هذا من أسباب قوله ( ﷺ ):" صدق. لا تقولوا إلا خيرا "..
وأخيرا يقف الإنسان أمام تقدير الله في الحادث ; وهو أن يكون حاطب من القلة التي يعهد إليها رسول الله ( ﷺ ) بسر الحملة. وأن تدركه لحظة الضعف البشري وهو من القلة المختارة. ثم يجري قدر الله بكف ضرر هذه اللحظة عن المسلمين. كأنما القصد هو كشفها فقط وعلاجها ! ثم لا يكون من الآخرين الذين لم يعهد إليهم بالسر اعتراض على ما وقع، ولا تنفج بالقول: ها هو ذا أحد من استودعوا السر خانوه، ولو أودعناه نحن ما بحنا به ! فلم يرد من هذا شيء. مما يدل على أدب المسلمين مع قيادتهم، وتواضعهم في الظن بأنفسهم، واعتبارهم بما حدث لأخيهم...
والحادث متواتر الرواية. أما نزول هذه الآيات فيه فهو أحد روايات البخاري. ولا نستبعد صحة هذه الرواية ; ولكن مضمون النص القرآني - كما قلنا - أبعد مدى، وأدل على أنه كان يعالج حالة نفسية أوسع من حادث حاطب الذي تواترت به الروايات، بمناسبة وقوع هذا الحادث، على طريقة القرآن.
كان يعالج مشكلة الأواصر القريبة، والعصبيات الصغيرة، وحرص النفوس على مألوفاتها الموروثة ليخرج بها من هذا الضيق المحلي إلى الأفق العالمي الإنساني.