وأما في الوجه الثالث : فالقصاص أعم من القتل، لأن القصاص يكون في نفس وفي غير نفس، والقتل لا يكون إلاَّ في النفس، فالآية أعم وأنفع في تحصيل الحياة.
وأما في الوجة الرابع : فلأن القصاص مشعر بالاستحقاق، فترتب على مشروعيته وجود الحياة.
ثم الآية المكرمة فيها مقابلة القصاص بالحياة فهو من مقابلة الشيء بضده، وهو نوع من البيان يسمى الطباق، وهو شبه قوله تعالى :﴿وأنه هو أمات وأحيى﴾ وهذه الجملة مبتدأ وخبر، وفي القصاص : متعلق بما تعلق به قوله : لكم، وهو في موضع الخبر، وتقديم هذا الخبر مسوّغ لجواز الابتداء بالنكرة، وتفسير المعنى : أنه يكون لكم في القصاص حياة، ونبه بالنداء نداء ذوي العقول والبصائر على المصلحة العامة، وهي مشروعية القصاص، إذ لا يعرف كنه محصولها إلاَّ أولو الألباب. أ هـ ﴿البحر المحيط حـ ٢ صـ ١٩﴾
وقال ابن عرفة
قوله تعالى :﴿وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ...﴾.
فيه دليل لأهل السنة القائلين بأن لا حسن ولا قبح لأن الآية خرجت مخرج الامتنان بتعداد هذه النعم، فدلّ على أنها تفضل من الله تعالى، ولو كان القصاص واجبا في (العقل) لما حسن كونه نعمة، ولما صح الإتيان به لأن ذلك تحصيل الحاصل.
قال الأصوليون والبيانيون : وهذه أبلغ من قول العرب القتل أنفى للقتل.
وقدره ابن مالك في المصباح بأربعة أوجه :
أحدهما : أن حروفها عشرة، وأسقط منها الياء من في (وألف) الوصل من " القِصَاصِ " لسقوطها في النطق وفي التفعيل أعني الأوزان (الشعرية)، وحروف " القتل أنفى للقتل " أربعة عشر.
الثاني : تنافر الحروف في المثل وتناسبها في الآية.
الثالث : لفظ الحياة محبوب، فالتصريح باسمها أولى من الكناية عنه بنفي القتل.
الرابع : صحة معناه لأن تنكير الحياة يفيد إما حياة عظيمة أو نوعا من الحياة إشارة لحسنه وغرابته، بخلاف المثل فإن معناه غير صحيح وحقيقته غير مرادة.