وقال الشيخ سيد قطب :
تقديم لسورة التغابن
هذه السورة أشبه شيء بالسور المكية في موضوعها وفي سياقها وفي ظلالها وإيحاءاتها، وبخاصة المقاطع الأولى منها. فلا يكاد الجو المدني يتبين إلا في فقراتها الأخيرة.
والفقرات الأولى إلى ابتداء النداء: يا أيها الذين آمنوا.. تستهدف بناء أسس العقيدة، وإنشاء التصور الإسلامي في القلوب بأسلوب السور المكية التي تواجه الكفار المشركين ابتداء، وتخاطبهم بهذا التصور خطاب المبتدئ في مواجهته. ثم هي تستخدم المؤثرات الكونية والنفسية كما تستعرض مصائر الغابرين من المكذبين قبلهم ; وتعرض عليهم مشاهد القيامة لإثبات البعث، وتوكيده توكيدا شديدا، يدل على أن المخاطبين به من المنكرين الجاحدين.
فأما الفقرات الأخيرة فهي تخاطب الذين آمنوا بما يشبه خطابهم في السور المدنية، لحثهم على الإنفاق، وتحذرهم فتنة الأموال والأولاد. وهي الدعوة التي تكررت نظائرها في العهد المدني بسبب مقتضيات الحياة الإسلامية الناشئة فيها. كما أن فيها ما قد يكون تعزية عن مصاب أو تكاليف وقعت على عاتق المؤمنين، ورد الأمر فيها إلى قدر الله، وتثبيت هذا التصور.. وهو ما يتكرر في السور المدنية وبخاصة بعد الأمر بالجهاد وما ينشأ عنه من تضحيات.
ولقد وردت روايات أن السورة مكية، ووردت روايات أخرى أنها مدنية مع ترجيحها. وكدت أميل إلى اعتبارها مكية تأثرا بأسلوب الفقرات الأولى فيها وجوها. ولكني أبقيت اعتبارها مدنية - مع الرأي الراجح فيها - لأنه ليس ما يمنع أن تكون الفقرات الأولى فيها خطابا للكفار بعد الهجرة سواء كانوا كفار مكة أم الكفار القريبين من المدينة. كما أنه ليس ما يمنع أن يستهدف القرآن المدني في بعض الأحيان جلاء أسس العقيدة، وإيضاح التصور الإسلامي، بهذا الأسلوب الغالب على أسلوب القرآن المكي.. والله أعلم..


الصفحة التالية
Icon