ومثل قوله تعالى عن خصيصة من خصائص إبليس وقبيله - وهو من الجن - غير أنه تمحض للشر والفساد والإغراء: إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم.. وما يدل عليه من أن كيان الجن غير مرئي للبشر، في حين أن كيان الإنس مرئي للجن.
هذا بالإضافة إلى ما قرره في سورة الرحمن عن المادة التي منها كيان الجن والمادة التي منها كيان الإنسان في قوله:(خلق الإنسان من صلصال كالفخار، وخلق الجان من مارج من نار).. يعطي صورة عن ذلك الخلق المغيب، تثبت وجوده، وتحدد الكثير من خصائصه ; وفي الوقت ذاته تكشف الأوهام والأساطير، العالقة بالأذهان عن ذلك الخلق، وتدع تصور المسلم عنه واضحا دقيقا متحررا من الوهم والخرافة، ومن التعسف في الإنكار الجامح كذلك !
وقد تكفلت هذه السورة بتصحيح ما كان مشركو العرب وغيرهم يظنونه عن قدرة الجن ودورهم في هذا الكون. أما الذين ينكرون وجود هذا الخلق إطلاقا، فلا أدري علام يبنون هذا الإنكار، بصيغة الجزم والقطع، والسخرية من الاعتقاد بوجوده، وتسميته خرافة !
ألأنهم عرفوا كل ما في هذا الكون من خلائق فلم يجدوا الجن من بينها ؟! إن أحدا من العلماء لا يزعم هذا حتى اليوم. وإن في هذه الأرض وحدها من الخلائق الحية لكثيرا مما يكشف وجوده يوما بعد يوم، ولم يقل أحد إن سلسلة الكشوف للأحياء في الأرض وقفت أو ستقف في يوم من الأيام !
لأنهم عرفوا كل القوى المكنونة في هذا الكون فلم يجدوا الجن من بينها ؟! إن أحدا لا يدعي هذه الدعوى. فهناك قوى مكنونة تكشف كل يوم ; وهي كانت مجهولة بالأمس. والعلماء جادون في التعرف إلى القوى الكونية، وهم يعلنون في تواضع قادتهم إليه كشوفهم العلمية ذاتها، أنهم يقفون على حافة المجهول في هذا الكون، وأنهم لم يكادوا يبدأون بعد !