ولا بد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى.. لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت، وانقطاع عن شواغل الأرض، وضجة الحياة، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة.
لا بد من فترة للتأمل والتدبر والتعامل مع الكون الكبير وحقائقه الطليقة. فالاستغراق في واقع الحياة يجعل النفس تألفه وتستنيم له، فلا تحاول تغييره. أما الانخلاع منه فترة، والانعزال عنه، والحياة في طلاقة كاملة من أسر الواقع الصغير، ومن الشواغل التافهة فهو الذي يؤهل الروح الكبير لرؤية ما هو أكبر، ويدربه على الشعور بتكامل ذاته بدون حاجة إلى عرف الناس، والاستمداد من مصدر آخر غير هذا العرف الشائع !
وهكذا دبر الله لمحمد ( ﷺ ) وهو يعده لحمل الأمانة الكبرى، وتغيير وجه الأرض، وتعديل خط التاريخ. دبر له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات. ينطلق في هذه العزلة شهرا من الزمان، مع روح الوجود الطليقة، ويتدبر ما وراء الوجود من غيب مكنون، حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن الله.
فلما أن أذن، وشاء - سبحانه - أن يفيض من رحمته هذا الفيض على أهل الأرض، جاء جبريل عليهالسلام إلى النبي ( ﷺ ) وهو في غار حراء.. وكان ما قصه رسول الله ( ﷺ ) من أمره معه فيما رواه ابن إسحاق عن وهب بن كيسان، عن عبيد، قال:


الصفحة التالية
Icon