اعلم أن جميع المفسرين فسروا التبتل بالإخلاص، وأصل التبتل في اللغة القطع، وقيل لمريم البتول لأنها انقطعت إلى الله تعالى في العبادة، وصدقة بتلة منقطعة من مال صاحبها.
وقال الليث : التبتيل تمييز الشيء عن الشيء، والبتول كل امرأة تنقبض من الرجال، لا رغبة لها فيهم.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن للمفسرين عبارات، قال الفراء : يقال للعابد إذا ترك كل شيء وأقبل على العبادة قد تبتل أي انقطع عن كل شيء إلى أمر الله وطاعته، وقال زيد بن أسلم التبتل رفض الدنيا مع كل ما فيها والتماس ما عند الله، واعلم أن معنى الآية فوق ما قاله هؤلاء الظاهريون لأن قوله :﴿وَتَبَتَّلْ﴾ أي انقطع عن كل ما سواه إليه والمشغول بطلب الآخرة غير متبتل إلى الله تعالى، بل التبتل إلى الآخرة والمغشول بعبادة الله متبتل إلى العبادة لا إلى الله، والطالب لمعرفة الله متبتل إلى معرفة الله لا إلى الله فمن آثر العبادة لنفس العبادة أو لطلب الثواب أو ليصير متعبداً كاملاً بتلك العبودية للعبودية فهو متبتل إلى غير الله، ومن آثر العرفان للعرفان فهو متبتل إلى العرفان، ومن آثر العبودية لا للعبودية بل للمعبود وآثر العرفان لا للعرفان بل للمعروف، فقد خاض لجة الوصول، وهذا مقام لا يشرحه المقال ولا يعبر عنه الخيال، ومن أراده فليكن من الواصلين إلى العين دون السامعين للأثر ولا يجد الإنسان لهذا مثالاً إلا عند العشق الشديد إذا مرض البدن بسببه وانحبست القوى وعميت العينان وزالت الأغراض بالكلية وانقطعت النفس عما سوى المعشوق بالكلية، فهناك يظهر الفرق بين التبتل إلى المعشوق وبين التبتل إلى رؤية المعشوق.
المسألة الثانية :