ومن تلك الحقائق الكبيرة التي تعرضها السورة، حقيقة النشأة الأولى، ودلالتها على صدق الخبر بالنشأة الأخرى، وعلى أن هناك تدبيرا في خلق هذا الإنسان وتقديرا.. وهي حقيقة يكشف الله للناس عن دقة أدوارها وتتابعها في صنعة مبدعة، لا يقدر عليها إلى الله، ولا يدعيها أحد ممن يكذبون بالآخرة ويتمارون فيها. فهي قاطعة في أن هناك إلها واحدا يدبر هذا الأمر ويقدره ; كما أنها بينة لا ترد على يسر النشأة الآخرة، وإيحاء قوي بضرورة النشأة الأخرى، تمشيا مع التقدير والتدبير الذي لا يترك هذا الإنسان سدى، ولا يدع حياته وعمله بلا وزن ولا حساب.. وهذا هو الإيقاع الذي تمس السورة به القلوب وهي تقول في أولها:(أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه ؟)ثم تقول في آخرها:(أيحسب الإنسان أن يترك سدى ؟ ألم يك نطفة من مني يمنى ؟ ثم كان علقة فخلق فسوى ؟ فجعل منه الزوجين: الذكر والأنثى ؟ أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ؟)..
ومن المشاهد المؤثرة التي تحشدها السورة، وتواجه بها القلب البشري مواجهة قوية.. مشهد يوم القيامة وما يجري فيه من انقلابات كونية، ومن اضطرابات نفسية، ومن حيرة في مواجهة الأحداث الغالبة حيث يتجلى الهول في صميم الكون، وفي أغوار النفس وهي تروغ من هنا ومن هناك كالفأر في المصيدة ! وذلك ردا على تساؤل الإنسان عن يوم القيامة في شك واستبعاد ليومها المغيب، واستهانة بها ولجاج في الفجور. فيجيء الرد في إيقاعات سريعة، ومشاهد سريعة، وومضات سريعة: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه. يسأل: أيان يوم القيامة ؟ فإذا برق البصر، وخسف القمر، وجمع الشمس والقمر، يقول الإنسان يومئذ: أين المفر ؟ كلا ! لا وزر، إلى ربك يومئذ المستقر، ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر. بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره !)..


الصفحة التالية
Icon