فأما الجهاد الذي كتب بعد ذلك فلم يكن لحمل الناس على الإيمان. إنما كان لإزالة العقبات من وجه الدعوة لتبلغ إلى الناس. فلا يمنعوا من سماعها. ولا يفتنوا عن دينهم إذا سمعوها. كان إزالة العقبات من طريق التذكير. الدور الوحيد الذي يملكه الرسول.
وهذا الإيحاء بأن ليس للرسول من أمر هذه الدعوة شيء إلا التذكير والبلاغ يتكرر في القرآن لأسباب شتى.
إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (٢٦)
في أولها إعفاء أعصاب الرسول من حمل هم الدعوة بعد البلاغ، وتركها لقدر الله يفعل بها ما يشاء. فإلحاح الرغبة البشرية بانتصار دعوة الخير وتناول الناس لهذا الخير، إلحاح عنيف جدا يحتاج إلى هذا الإيحاء المتكرر بإخراج الداعية لنفسه ولرغائبه هذه من مجال الدعوة، كي ينطلق إلى أدائها كائنة ما كانت الاستجابة، وكائنة ما كانت العاقبة. فلا يعني نفسه بهم من آمن وهم من كفر. ولا يشغل باله بهذا الهم الثقيل حين تسوء الأحوال من حول الدعوة، وتقل الاستجابة، ويكثر المعرضون والمخاصمون.
ومما يدل على إلحاح الرغبة البشرية في انتصار دعوة الله وتذوق الناس لما فيها من خير ورحمة، هذه التوجيهات المتكررة للرسول ( ﷺ ) وهو من هو تأدبا بأدب الله ومعرفة لحدوده ولقدر الله.. ومن ثم اقتضى إلحاح هذه الرغبة هذا العلاج الطويل المتكرر في شتى الأحيان..
ولكن إذا كان هذا هو حد الرسول، فإن الأمر لا ينتهي عند هذا الحد. ولا يذهب المكذبون ناجين، ولا يتولون سالمين. إن هنالك الله وإليه تصير الأمور:
(إلا من تولى وكفر. فيعذبه الله العذاب الأكبر)..
وهم راجعون إلى الله وحده قطعا، وهو مجازيهم وحده حتما. وهذا هو الإيقاع الختامي في السورة في صيغة الجزم والتوكيد.
(إن إلينا إيابهم. ثم إن علينا حسابهم)..