والمعنى هنا : أن من آثار تسوية النفس إدراك العلوم الأولية والإِدراك الضروري المدرَّج ابتداء من الانسياق الجِبلي نحو الأمور النافعة كطلب الرضيع الثدي أول مرة، ومنه اتقاء الضار كالفرار مما يُكره، إلى أن يبلغ ذلك إلى أول مراتب الاكتساب بالنظر العقلي، وكل ذلك إلهام.
وتعدية الإِلهام إلى الفجور والتقوى في هذه الآية مع أن الله أعلم الناس بما هو فجور وما هو تقوى بواسطة الرسل باعتبار أنه لولا ما أودع الله في النفوس من إدراك المعلومات على اختلاف مراتبها لما فهموا ما تدعوهم إليه الشرائع الإلهية، فلولا العقول لما تيسّر إفهامُ الإِنسان الفجور والتقوى، والعقابَ والثواب.
وتقديم الفجور على التقوى مراعىً فيه أحوال المخاطبين بهذه السورة وهم المشركون، وأكثر أعمالهم فجور ولا تقوى لهم، والتقوى صفة أعمال المسلمين وهم قليل يومئذ.
ومجيء فعل :"ألهمها" بصيغة الإِسناد إلى ضمير مذكر باعتبار أن تأنيث مصدر التسوية تأنيث غير حقيقي أو لمراعاة لفظ ﴿ ما ﴾ إن جعلتَها موصولة.
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (١٠)
يجوز أن تكون الجملة جواب القسم، وإن المعنى تحقيق فلاح المؤمنين وخَيبة المشركين كما جُعل في سورة الليل ( ٤، ٥ ) جوابَ القسم قولْه :﴿ إن سعيكم لشتى فأما من أعطى ﴾ الخ.
ويجوز أن تكون جملةً معترضة بين القَسم والجواب لمناسبة ذكر إلهام الفجور والتقوى، أي أفلح من زكّى نفسه واتّبع ما ألهمه الله من التقوى، وخاب من اختار الفجور بعد أن ألهم التمييز بين الأمرين بالإِدراك والإِرشاد الإلهي.
وهذه الجملة توطئة لجملة :﴿ كذبت ثمود بطغواها ﴾ [ الشمس : ١١ ] فإن ما أصاب ثمودا كان من خيبتهم لأنهم دَسَّوا أنفسهم بالطغوى.
وقدم الفلاح على الخيبة لمناسبته للتقوى، وأردف بخيبة من دسى نفسه لتهيئة الانتقال إلى الموعظة بما حصل لثمود من عقاب على ما هو أثر التدسية.