ولما ذكر ما يتعلق بالقوة العلمية، أتبعه ما ينظر إلى القوة العملية فقال :﴿الذي يؤتي ماله﴾ أي يصرفه في مصارف الخير، ولذلك بينه بقوله تعالى :﴿يتزكّى﴾ أي يتطهر من الأوضار والأدناس بتطهيره لنفسه وتنميتها بذلك الإيتاء بالبعد عن مساوىء الأخلاق ولزوم محاسنها لأنه ما كذب وما تولى، والآية من الاحتباك : ذكر التكذيب أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً، وإيتاء المال ثانياً دليلاً على حذف ضده أولاً.
ولما كان الإنسان قد يعطي ليزكي نفسه بدفع مانّه ومكافأة نعمه قال :﴿وما﴾ أي والحال أنه ما ﴿لأحد عنده﴾ وأعرق في النفي فقال :﴿من نعمة تجزى﴾ أي هي مما يحق جزاؤه لأجلها.
ولما نفى أن يكون بذلك قصد مكافأة، قال مبيناً قصده باستثناء منقطع :﴿إلا﴾ أي لكن قصد بذلك ﴿ابتغاء﴾ أي طلب وقصد، ولفت القول إلى صفة الإحسان إشارة إلى وصفه بالشكر فقال :﴿وجه ربه﴾ الذي أوجده ورباه وأحسن إليه بحيث إنه لم ير إحساناً إلا منه ولا عنده شيء إلا وهو من فضله ﴿الأعلى﴾ أي مطلقاً فهو أعلى من كل شيء، فلا يمكن أن يعطي أحد من نفسه شيئاً يقع مكافأة له، وعبر عن المنقطع بأداة المتصل للإشارة إلى أن الابتغاء المذكور كأنه نعمة ممن آتاه المال لأن الابتغاء - وهو تطلب رضا الله - كان السبب في ذلك الإيتاء بغاية الترغيب، وقد آل الأمر بهذه العبارة الرشيقة والإشارة الأنيقة مع ما أومأت إليه من الترغيب، وأعطته من التحبيب إلى أن المعنى : إنه لا نعمى عليه لأحد في ذلك إلا الله، وعبر بالوجه إشارة إلى أن قصده أعلى القصود فلا نظر له إلا إلى ذاته سبحانه وتعالى التي عبر عنها بالوجه لأنه أشرف الذات، وبالنظر إليه تحصل الحياة والرغبة والرهبة، لا إلى طلب شيء من دنيا ولا آخرة.


الصفحة التالية
Icon