وفي الآية دليل على أن الاشتغال بالدنيا، والمكاثرة بها، والمفاخرة فيها من الخصال المذمومة، وقال سبحانه :﴿ ألهاكم التكاثر ﴾ ولم يقل عن كذا، بل أطلقه ؛ لأن الإطلاق أبلغ في الذمّ ؛ لأنه يذهب الوهم فيه كلّ مذهب، فيدخل فيه جميع ما يحتمله المقام، ولأن حذف المتعلق مشعر بالتعميم، كما تقرّر في علم البيان ؛ والمعنى أنه شغلكم التكاثر عن كلّ شيء يجب عليكم الاشتغال به من طاعة الله، والعمل للآخرة، وعبر عن موتهم بزيارة المقابر ؛ لأن الميت قد صار إلى قبره، كما يصير الزائر إلى الموضع الذي يزوره هذا على قول من قال : إن معنى ﴿ زُرْتُمُ المقابر ﴾ متم، أما على قول من قال : إن معنى :﴿ زُرْتُمُ المقابر ﴾ ذكرتم الموتى، وعددتموهم للمفاخرة، والمكاثرة، فيكون ذلك على طريق التهكم بهم، وقيل : إنهم كانوا يزورون المقابر، فيقولون هذا قبر فلان، وهذا قبر فلان يفتخرون بذلك.
﴿ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ ردع وزجر لهم عن التكاثر، وتنبيه على أنهم سيعلمون عاقبة ذلك يوم القيامة، وفيه وعيد شديد.
قال الفرّاء : أي : ليس الأمر على ما أنتم عليه من التكاثر والتفاخر.
ثم كرّر الردع والزجر، والوعيد فقال :﴿ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ وثم للدلالة على أن الثاني أبلغ من الأوّل، وقيل : الأوّل عند الموت أو في القبر، والثاني يوم القيامة.
قال الفرّاء : هذا التكرار على وجه التغليظ والتأكيد.
قال مجاهد : هو وعيد بعد وعيد.
وكذا قال الحسن، ومجاهد.
﴿ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين ﴾ أي : لو تعلمون الأمر الذي أنتم صائرون إليه علماً يقيناً كعلمكم ما هو متيقن عندكم في الدنيا، وجواب " لو " محذوف، أي : لشغلكم ذلك عن التكاثر والتفاخر، أو لفعلتم ما ينفعكم من الخير، وتركتم ما لا ينفعكم مما أنتم فيه.
و﴿ كلا ﴾ في هذا الموضع الثالث للزجر، والردع كالموضعين الأوّلين.
وقال الفرّاء : هي بمعنى حقاً.


الصفحة التالية
Icon