فيه قولان الأول : المراد به الإفاضة من عرفات، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فالأكثرون منهم ذهبوا إلى أن هذه الآية أمر لقريش وحلفائها وهم الحمس، وذلك أنهم كانوا لا يتجاوزون المزدلفة ويحتجون بوجوه أحدها : أن الحرم أشرف من غيره فوجب أن يكون الوقوف به أولى وثانيها : أنهم كانوا يترفعون على الناس ويقولون : نحن أهل الله فلا نحل حرم الله وثالثها : أنهم كانوا لو سلموا أن الموقف هو عرفات لا الحرم، لكان ذلك يوهم نقصاً في الحرم ثم ذلك النقص كان يعود إليهم، ولهذا كان الحمس لا يقفون إلا في المزدلفة، فأنزل الله تعالى هذه الآية أمراً لهم بأن يقفوا في عرفات، وأن يفيضوا منها كما تفعله سائر الناس، وروي أن النبي عليه الصلاة والسلام لما جعل أبا بكر أميراً في الحج أمره بإخراج الناس إلى عرفات، فلما ذهب مر على الحمس وتركهم فقالوا له : إلى أين وهذا مقام آبائك وقومك فلا تذهب، فلم يلتفت إليهم ومضى بأمر الله إلى عرفات ووقف بها، وأمر سائر الناس بالوقوف بها، وعلى هذا التأويل فقوله :﴿مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس﴾ يعني لتكن إفاضتكم من حيث أفاض سائر الناس الذين هم واقفون بعرفات، ومن القائلين بأن المراد بهذه الآية الإفاضة من عرفات من يقول قوله :﴿ثُمَّ أَفِيضُواْ﴾ أمر عام لكل الناس، وقوله :﴿مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس﴾ المراد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فإن سنتهما كانت الإفاضة من عرفات، وروي أن النبي ﷺ كان يقف في الجاهلية بعرفة كسائر الناس، ويخالف الحمس، وإيقاع اسم الجمع على الواحد جائز إذا كان رئيساً يقتدي به، وهو كقوله تعالى :﴿الذين قَالَ لَهُمُ الناس﴾ [آل عمران : ١٧٣] يعني نعيم بن مسعود ﴿إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ﴾ [آل عمران : ١٧٣] يعني أبا سفيان، وإيقاع اسم الجمع على الواحد المعظم مجاز مشهور، ومنه قوله :﴿إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةِ القدر ﴾


الصفحة التالية
Icon