الأول : في قوله تعالى :﴿لَفِى خُسْرٍ﴾ أي في طريق الخسر، وهذا كقوله في أكل أموال اليتامى :
﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً﴾ [ النساء : ١٠ ] لما كانت عاقبته النار.
الاحتمال الثاني : أن الإنسان لا ينفك عن خسر، لأن الخسر هو تضييع رأس المال، ورأس ماله هو عمره، وهو قلما ينفك عن تضييع عمره، وذلك لأن كل ساعة تمر بالإنسان ؛ فإن كانت مصروفة إلى المعصية فلا شك في الخسران، وإن كانت مشغولة بالمباحات فالخسران أيضاً حاصل، لأنه كما ذهب لم يبق منه أثر، مع أنه كان متمكناً من أن يعمل فيه عملاً يبقى أثره دائماً، وإن كانت مشغولة بالطاعات فلا طاعة إلا ويمكن الإتيان بها، أو بغيرها على وجه أحسن من ذلك، لأن مراتب الخضوع والخشوع لله غير متناهية، فإن مراتب جلال الله وقهره غير متناهية، وكلما كان علم الإنسان بها أكثر كان خوفه منه تعالى أكثر، فكان تعظيمه عند الإتيان بالطاعات أتم وأكمل، وترك الأعلى والاقتصار بالأدنى نوع خسران، فثبت أن الإنسان لا ينفك ألبتة عن نوع خسران.
واعلم أن هذه الآية كالتنبيه على أن الأصل في الإنسان أن يكون في الخسران والخيبة، وتقريره أن سعادة الإنسان في حب الآخرة والإعراض عن الدنيا، ثم إن الأسباب الداعية إلى الآخرة خفية، والأسباب الداعية إلى حب الدنيا ظاهرها، وهي الحواس الخمس والشهوة والغضب، فلهذا السبب صار أكثر الخلق مشتغلين بحب الدنيا مستغرقين في طلبها، فكانوا في الخسران والبوار، فإن قيل : إنه تعالى قال في سورة التين ( ٤، ٥ ) :﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين﴾ فهناك يدل على أن الابتداء من الكمال والانتهاء إلى النقصان، وههنا يدل على أن الابتداء من النقصان والانتهاء إلى الكمال، فكيف وجه الجمع ؟ قلنا : المذكور في سورة التين أحوال البدن، وههنا أحوال النفس فلا تناقض بين القولين.