مكة يرتحلون للتجارة هاتين الرحلتين، ويأتون لأهل بلدهم ما يحتاجون إليه من الأطعمة والثياب، وإنما كانوا يربحون في أسفارهم لأن ملوك النواحي كانوا يعظمون أهل مكة، ويقولون هؤلاء جيران بيت اللّه، وسكان حرمه، وولاة الكعبة حتى إنهم كانوا يسمون أهل مكة أهل اللّه، فلو تم للحبشة ما عزموا عليه من هدم الكعبة لزال عنهم هذا العز ولبطلت تلك المزايا من التعظيم والاحترام، ولصار سكان مكة كسكان سائر النواحي يتخطفون من كل جانب ويتعرض لهم في نفوسهم وأموالهم، فلما أهلك اللّه أصحاب الفيل ازدادت قيمة أهل مكة في القلوب وازداد تعظيم ملوك الأطراف لهم، فازدادت تلك المنافع والمتاجر حتى كان فقيرهم كغنيهم، فجاء الإسلام وهم على ذلك فلهذا قال اللّه تعالى : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ [الفيل : ١] لِإِيلافِ قُرَيْشٍ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ هذا وتعلق أول هذه السورة بما قبلها من قوله تعالى : فَعَلَ رَبُّكَ أو من قوله تعالى : فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ [الفيل : ٥] ليس بحجة على أنهما سورة واحدة لأن القرآن كله كالسورة الواحدة، وكالآية الواحدة يصدق بعضها بعضا، ويبين بعضها معنى بعض ألا ترى أن قوله تعالى : إِنَّا أَنْزَلْناهُ [القدر : ١] متعلق بما قبله من ذكر القرآن وأما قراءة سيدنا عمر رضي اللّه عنه فإنها لا تدل على أنهما سورة واحدة لأن الإمام قد يقرأ سورتين في ركعة واحدة، وقيل : إن المراد رحلة الناس إلى أهل مكة فرحلة الشتاء والصيف عمرة رجب وحج ذي الحجة لأنه كان أحدهما شتاء والآخر صيفا، وموسم منافع مكة يكون بهما ولو كان ثمّ لأصحاب الفيل ما أرادوا لتعطلت هذه المنفعة.
وقرئ «رحلة» بضم الراء وهي الجهة التي يرحل إليها، لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
(٣) قال الخليل وسيبويه : إن اللام في «لإيلاف» متعلقة بقوله : لْيَعْبُدُوا