هذه هي المنة التي يذكرهم الله بها - بعد البعثة - كما ذكرهم منة حادث الفيل في السورة السابقة، منة إيلافهم رحلتي الشتاء والصيف، ومنة الرزق الذي أفاضه عليهم بهاتين الرحلتين - وبلادهم قفرة جفرة وهم طاعمون هانئون من فضل الله. ومنة أمنهم الخوف. سواء في عقر دارهم بجوار بيت الله، أم في أسفارهموترحالهم في رعاية حرمة البيت التي فرضها الله وحرسها من كل اعتداء.
يذكرهم بهذه المنن ليستحيوا مما هم فيه من عبادة غير الله معه ; وهو رب هذا البيت الذي يعيشون في جواره آمنين طاعمين ; ويسيرون باسمه مرعيين ويعودون سالمين..
يقول لهم : من أجل إيلاف قريش : رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي كفل لهم الأمن فجعل نفوسهم تألف الرحلة، وتنال من ورائها ما تنال (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع).. وكان الأصل - بحسب حالة أرضهم - أن يجوعوا، فأطعمهم الله وأشبعهم من هذا الجوع (وآمنهم من خوف).. وكان الأصل - بحسب ما هم فيه من ضعف وبحسب حالة البيئة من حولهم - أن يكونوا في خوف فآمنهم من هذا الخوف !
وهو تذكير يستجيش الحياء في النفوس. ويثير الخجل في القلوب. وما كانت قريش تجهل قيمة البيت وأثر حرمته في حياتها. وما كانت في ساعة الشدة والكربة تلجأ إلا إلى رب هذا البيت وحده. وها هو ذا عبد المطلب لا يواجه أبرهة بجيش ولا قوة. إنما يواجهه برب هذا البيت الذي يتولى حماية بيته ! لم يواجهه بصنم ولا وثن، ولم يقل له.. إن الآلهة ستحمي بيتها. إنما قال له :"أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه".. ولكن انحراف الجاهلية لا يقف عند منطق، ولا يثوب إلى حق، ولا يرجع إلى معقول.


الصفحة التالية
Icon