ثم قال الشيخ :" والذي أَختارُ في هذه الجملِ أنه نفى عبادتَه في المستقبل ؛ لأن الغالِبَ في " لا " أَنْ تنفي المستقبلَ، ثم عَطَفَ عليه ﴿ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ ﴾ نَفْياً للمستقبلِ، على سبيل المقابلةِ. ثم قال :﴿ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ﴾ نَفْياً للحال ؛ لأنَّ اسمَ الفاعلِ العاملَ الحقيقةُ فيه دلالتُه على الحالِ، ثم عَطَفَ عليه ﴿ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ ﴾ نَفْياً للحال على سبيل المقابلةِ، فانتظم المعنى أنَّه عليه السلام لا يَعْبُدُ ما يعبدون حالاً ولا مستقبلاً. وهم كذلك إذ حَتَم الله تعالى موافاتَهم على الكفر. ولَمَّا قال :" لا أعبدُ ما تبعدون " فأطلق " ما " على الأصنامِ قابلَ الكلام ب " ما " في قولِه " ما أعبد " وإنْ كان المرادُ بها اللَّهَ تعالى ؛ لأنَّ المقابلةَ يسوغُ فيها ما لا يَسُوغ في الانفرادِ. وهذا على مذهبِ مَنْ يقول : إنَّ " ما " لا تقع على آحادِ أولي العلمِ. أمَّا مَنْ يُجَوِّزُ ذلك - وهو مذهبُ سيبويهِ - فلا يَحْتاج إلى الاستعذارِ بالتقابلِ ".
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦)
قوله :﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ أتى بهاتَيْنِ الجملتين الإِثباتِيَّتَيْن بعد جملٍ منفيةٍ ؛ لأنه لَمَّا كان الأهمُّ انتفاءَه عليه السلام مِنْ دينهم بدأ بالنفي في الجملِ السابقةِ بالمنسوبِ إليه، فلمَّا تحقَّقَ النفيُ رَجَعَ إلى خطابِهم بقولِه ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ مهادنةً لهم، ثم نَسَخَ ذلك بالأمرِ بالقتال.
وفتح الياءَ مِنْ " لي " نافعٌ وهشامٌ وحفصٌ والبزيُّ بخلافٍ عنه، وأسكنها الباقون، وحَذَفَ ياءَ الإِضافةِ مِنْ " ديني " وقفاً ووَصْلاً السبعةُ وجمهور القراء، وأثبتها في الحالَيْن سلامٌ ويعقوب، وأمرُها واضحٌ ممَّا تقدَّم. أ هـ ﴿الدر المصون حـ ١١ صـ ١٣١ ـ ١٣٨﴾