وثانيهما بالقوة والتربية الخلقية، لكنهما على ما يتلوهما من المفاسد مبنيان على أساس الجهل، فيه بوار هذا النوع، وهلاك الحقيقة الإنسانية، فإن هذا الإنسان موجود مخلوق لله متعلق الوجود بصانعه، بدء من عنده وسيعود إليه، فله حياة باقية بعد الارتحال من هذه النشأة الدنيوية، حياة طويلة الذيل، غير منقطع الأمد، وهي مرتبة على هذه الحياة الدنيوية، وكيفية سلوك الإنسان فيها، واكتسابه الأحوال والملكات المناسبة للتوحيد الذي هو كونه عبدا لله سبحانه، بادئا منه عائدا إليه، وإذا بنى الإنسان حياته في هذه الدنيا على نسيان توحيده، وستر حقيقة الأمر فقد أهلك نفسه، وأباد حقيقته.
فمثل الناس في سلوك هذين الطريقين كمثل قافلة أخذت في سلوك الطريق إلى بلد ناء معها ما يكفيها من الزاد ولوازم السير، ثم نزلت في أحد المنازل في أثناء الطريق فلم يلبث هنيئة حتى أخذت في الاختلاف : من قتل، وضرب، وهتك عرض، وأخذ مال وغصب مكان وغير ذلك، ثم اجتمعوا يتشاورون بينهم على اتخاذ طريقة يحفظونها لصون أنفسهم وأموالهم.
فقال قائل منهم : عليكم بالاشتراك في الانتفاع من هذه الأعراض والأمتعة، والتمتع على حسب ما لكل من الوزن الاجتماعي، فليس إلا هذا المنزل والمتخلف عن ذلك يؤخذ بالقوة والسياسة.
وقال قائل منهم : ينبغي أن تضعوا القانون المصلح لهذا الاختلاف على أساس الشخصيات الموجودة الذي جئتم بها من بلدكم الذي خرجتم منه، فيتأدب كل بما له من الشخصية الخلقية، ويأخذ بالرحمة لرفقائه، والعطوفة والشهامة والفضيلة، ثم تشتركوا مع ذلك في الانتفاع عن هذه الأمتعة الموجودة، فليست إلا لكم ولمنزلكم هذا.
وقد أخطا القائلان جميعا، وسهيا عن أن القافلة جميعا على جناح سفر، ومن الواجب على المسافر أن يراعي في جميع أحواله حال وطنه وحال غاية سفره التي يريدها فلو نسي شيئا من ذلك لم يكن يستقبله إلا الضلال والغى والهلاك.