وقوله :﴿والذين اتقوا فوقهم﴾ أريد من الذين اتقوا المؤمنون الذين سخر منهم الذين كفروا ؛ لأن أولئك المؤمنين كانوا متقين، وكان مقتضى الظاهر أن يقال وهم فوقهم لكن عُدل عن الإضمار إلى اسم ظاهر لدفع إيهام أن يغتر الكافرون بأن الضمير عائد إليهم ويضموا إليه كذباً وتلفيقاً كما فعلوا حين سمعوا قوله تعالى :﴿أفرءيتم اللات والعزى﴾ ﴿النجم : ١٩ ] إذ سجد المشركون وزعموا أن محمداً أثنى على آلهتهم. فعدل لذلك عن الإضمار إلى الإظهار ولكنه لم يكن بالاسم الذي سبق أعني ( الذين ءَامنوا ) لقصد التنبيه على مزية التقوى وكونها سبباً عظيماً في هذه الفوقية، على عادة القرآن في انتهاز فرص الهدى والإرشاد ليفيد فضل المؤمنين على الذين كفروا، وينبه المؤمنين على وجوب التقوى لتكون سبب تفوقهم على الذين كفروا يوم القيامة، وأما المؤمنون غير المتقين فليس من غرض القرآن أن يعبأ بذكر حالهم ليكونوا دَوماً بين شدة الخوف وقليل الرجاء، وهذه عادة القرآن في مثل هذا المقام.
والفوقية هنا فوقية تشريف وهي مجاز في تناهي الفضل والسيادة كما استعير التحت لحالة المفضول والمسخَّر والمملوك. وقيدت بيوم القيامة تنصيصاً على دوامها، لأن ذلك اليوم هو مبدأ الحياة الأبدية. أ هـ {التحرير والتنوير حـ ٢ صـ ٢٩٨﴾
قوله تعالى :﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾
المناسبة
ولما كان تبدل الأحوال قريباً عندهم من المحال كان كأنه قيل في تقريب ذلك : برزق من عند الله يرزقهموه ﴿والله﴾ بعز سلطانه وجلال عظمته وباهر كرمه ﴿يرزق من يشاء﴾ أي في الدنيا وفي الآخرة ولو كان أفقر الناس وأعجزهم. ولما كان الإعطاء جزافاً لا يكون إلا عن كثرة وبكثرة قال :﴿بغير حساب﴾ أي رزقاً لا يحد ولا يعد، لأن كل ما دخله الحد فهو محصور متناه يعد، وفي هذه الأمة من لا يحاسبه الله على ما آتاه فهي في حقه على حقيقتها من هذه الحيثية.
أهـ ﴿نظم الدرر حـ ١ صـ ٣٩٣﴾
قال الزمخشرى :
﴿والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ بغير تقدير، يعني أنه يوسع على من توجب الحكمة التوسعة عليه (١) كما وسع على قارون وغيره، فهذه التوسعة عليكم من جهة الله لما فيها من الحكمة وهي استدراجكم بالنعمة. ولو كانت كرامة لكان أولياؤه المؤمنون أحق بها منكم. أ هـ ﴿الكشاف حـ ١ صـ ٢٥٥﴾
(١) هذا الكلام مبنى على مذهب المعتزلة فى نظرية الصلاح والأصلح ومعلوم عند أهل السنة أن الله تعالى لا يجب عليه شىء، والمسألة مشهورة فى علم الكلام.