ثم إنه تعالى وصف النبيين بصفات ثلاث : الأولى : كونهم مبشرين، والثانية : كونهم منذرين وقدمت البشارة على الإنذار لأن البشارة تجري مجرى حفظ الصحة، والإنذار يجري مجرى إزالة المرض. أو الأول لكونه مقصود الغذاء، والثاني كتناول الدواء. والأول لكونه مقصوداً بالذات مقدم على الثاني لأنه مقصود بالعرض. الصفة الثالثة : قوله ﴿ وأنزل معهم الكتاب بالحق ﴾ وفي قوله " معهم " والضمير يعود إلى عامة النبيين دليل على أنه لا نبي إلا ومعه كتاب منزل فيه بيان الحق والباطل، طال ذلك الكتاب أم قصر، ودوّن ذلك الكتاب أو لم يدوّن، معجزاً كان أو غير معجز. قيل : إنزال الكتاب قبل وصول الأمر و النهي إلى المكلفين، ووصول الأمر والنهي إليهم قبل التبشير والإنذار، فلم قدم التبشير والإنذار على إنزال الكتاب؟ وأجيب بأن الوعد والوعيد منهم قبل بيان الشرع ممكن فيما يتصل بالعقليات من المعرفة بالله وترك الظلم وغيرهما، وبأن المكلف إنما يتحمل النظر في دلالة المعجز على الصدق. وفي الفرق بين العجز والسحر إذا خاف أنه لو لم ينظر فربما ترك الحق فيصير مستحقاً للعقاب والخوف إنما يقوى عند التبشير والإنذار فلهذا قدم ذكرهما على إنزال الكتاب. قلت : فيه فائدة أخرى لفظية هي أن لا يقع فاصلة كثيرة بين الثالثة وبين الأولين، أو بين الثالثة وبين ما رتب عليها من قوله ﴿ ليحكم ﴾ أي الكتاب لأنه أقرب. ولا محذور في نسبة الحكم إليه تجوزاً كما لا محذور في كونه هدى وشفاء. واللام للجنس، أو أريد مع كل واحد كتابه. وقيل : ليحكم الله لأنه الحاكم في الحقيقة لا الكتاب وقيل : ليحكم النبي المنزل عليه بين الناس ﴿ فيما اختلفوا فيه ﴾ أي في الحق ودين الإسلام الذي اختلفوا فيه بعد الاتفاق، أو في كل ما اختلفوا فيه ولم يعرفوا وجه الصواب في ذلك بحسب حكم الله ﴿ وما اختلف فيه ﴾ في الحق ﴿ إلا الذين أوتوه ﴾ أي أعطوا الحق وأدّوه لمباشرة أسبابه القريبة