وإقامة ذلك الميزان في حاجة كذلك إلى استعلاء على الحاجة، واستعلاء على النقص، واستعلاء على الفناء، واستعلاء على الفوت، واستعلاء على الطمع، واستعلاء على الرغبة والرهبة.. واستعلاء على الكون كله بما فيه ومن فيه.. في حاجة إلى إله، لا أرب له، ولا هوى، ولا لذة، ولا ضعف في ذاته - سبحانه - ولا قصور!
أما العقل البشري فبحسبه أن يواجه الأحوال المتطورة، والظروف المتغيرة، والحاجات المتجددة ؛ ثم يوائم بينها وبين الإنسان في لحظة عابرة وظرف موقوت. على أن يكون هناك الميزان الثابت الذي يفيء إليه، فيدرك خطأه وصوابه، وغيه ورشاده، وحقه وباطله، من ذلك الميزان الثابت.
. وبهذا وحده تستقيم الحياة. ويطمئن الناس إلى أن الذي يسوسهم في النهاية إله!
إن الكتاب لم ينزل بالحق ليمحو فوارق الاستعدادات والمواهب والطرائق والوسائل. إنما جاء ليحتكم الناس إليه.. وإليه وحده.. حين يختلفون..
ومن شأن هذه الحقيقة أن تنشىء حقيقة أخرى تقوم على أساسها نظرة الإسلام التاريخية :
إن الإسلام يضع ﴿ الكتاب ﴾ الذي أنزله الله ﴿ بالحق ﴾ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.. يضع هذا الكتاب قاعدة للحياة البشرية. ثم تمضي الحياة. فإما اتفقت مع هذه القاعدة، وظلت قائمة عليها، فهذا هو الحق. وإما خرجت عنها وقامت على قواعد أخرى، فهذا هو الباطل.. هذا هو الباطل ولو ارتضاه الناس جميعاً. في فترة من فترات التاريخ. فالناس ليسوا هم الحكم في الحق والباطل. وليس الذي يقرره الناس هو الحق، وليس الذي يقرره الناس هو الدين. إن نظرة الإسلام تقوم ابتداء على أساس أن فعل الناس لشيء، وقولهم لشيء، وإقامة حياتهم على شيء.. لا تحيل هذا الشيء حقاً إذا كان مخالفاً للكتاب ؛ ولا تجعله أصلاً من أصول الدين ؛ ولا تجعله التفسير الواقعي لهذا الدين ؛ ولا تبرره لأن أجيالاً متعاقبة قامت عليه..


الصفحة التالية
Icon